فيض العليم … سورة هود، الآية: 18


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

(18)

قوله ـ تعالى جَدُّه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} يُبَيِّنُ اللهُ تعالى يومَ القيامة حالَ المُفْتَرينَ عَلَيْهِ وفَضيحتَهم في الدارِ الآخِرَةِ على رءوسِ الخلائق؛ من الملائكة، والرسل، والأنبياء، وسائر البشر والجان، أي: لا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنهم لأنْفُسِهم؛ بإيرادهم لها هذا المورد الوخِمَ حينَ افْتَروا على الله الكَذِبَ بقولهم أنَّ أَصْنامَهم هم شُفَعاءُ لهم عِنْدَ اللهِ. أو أَنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ، وبإضافَتِهم كلامَ اللهِ إلى النبيِّ تارة وإلى الجِنَّةِ أو إلى رُهبانٍ وسَحَرةٍ وكَهَنَةٍ، وإذا نَفَى المُساوِيَ لهم في ظُلْمِهم. فأَنْ يُوجَدَ مَنْ هوَ أَظْلَم مِنْهم من باب الأولى، وهذا ما يفيدُهُ الاسْتِفْهامُ الإنكاري هنا.

قولُهُ: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} فهؤلاءِ الكاذِبينَ المُكَذِّبينَ، سيعرضون على ربِّهم يومَ القيامةِ ويَسْأَلُهم عَنْ أَعْمالِهم، ويواجههم بأقوالهم وما كانوا يفترونه عليه مِنْ أَكاذيبَ، فأَيُّ موقفٍ أشدُّ خزياً وخذلاناً ورعباً أنْ تواجه بكذبك وافتراءاتك أمامَ منْ افتريتَ عليه، لا سيّما إذا كانُ زعيماً أو عظيماً قد أَسْبَغَ عليك ما لا تحصيه من النعم، لا حاجةً منه إليك وإنّما تفضُّلاً منه عليك، فكيف إذا كان هذا الذي عصيتَه وافتريتَ عليه هو ربُّ العالمين؟! اللهم جَنِّبْنا خزي يومِ إذْ.

قولُهُ: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} وما ستواجه به أيُّها الظالِمُ نَفْسَهُ ليسَ اتِهاماً تستطيع دفعَهُ أو إنكاره، وإنِّما هي جرائمُ موثَّقة بالصوتِ والصورةِ ومؤَكَّدةٌ بالشهودِ مِنَ الملائكة الكرامِ الكاتبين ـ عليهِمُ السَّلامُ، الذين كانوا يَعُدُّونَ عَلَيْكَ أَنْفاسَكَ في الحياةِ الدُنْيا ويُحْصونَ عَلَيْكَ حَرَكاتِكَ وسَكَناتِكَ، وكانوا يَحْفَظونَ أَعمالَكَ ويؤرشفونها، ثمَّ والأنْبياءُ والمُرْسلونَ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ، الذينَ سيشهدونَ عليكَ أمامَ اللهِ تعالى في ذلك الموقف العصيب الصعيب، سيشهدونَ عليك بأنهم بلغوك رسالة ربِّكَ وحذَّروكَ وبينوا لك عاقبةَ أمرك، وليس هذا فحسب، بلْ وسينطقُ اللهُ جوارحك التي اقترفت بها معاصيك ولسانك الذي افتريت به فيشهدُ الجميعُ عليك بما فعلت وقلتَ، والجبّارُ العظيم الذي هو بكلِّ شيءٍ عليم الذي خلقك وسوّاك فعَدَلَكَ مُطَّلِعٌ على نَواياكَ ومَراميكَ وما تُحَدِّثُكَ بِهِ نَفْسُك: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} سورة ق، الآيات: 16 – 26.

قولُه:{أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} رَوَى الإمامُ البَغَويُّ بسندهِ عنْ عبدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ اللهَ يُدْني المُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيقولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذا؟ أَتَعرف ذنب كذا؟ فيقولُ: نَعَم أيْ رَبِّ، حتى إذا قَرَّرَهُ بِذُنوبِهِ، ورأَى في نَفْسِهِ أَنَّه قد هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُها عَلَيْكَ في الدنيا وأَنَا أَغْفِرُها لَكَ اليومَ، فيُعْطى كِتابَ حَسَنَاتِهِ”، وأَمَّا الكُفَّارُ والمُنافِقونَ فيُنَادي بِهِمْ على رُؤوسِ الخَلائقِ، {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)). وأخرجهُ البُخارِيُّ في صحيحِهِ انْظُرْ: فَتْحَ الباري: 13 / 477. وأخرجه مسلمٌ: (2766): 4/2120. و الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/ 412) وَأخرجه أيضاً ابْنُ الْمُبَارك وَابْن أبي شيبَة وَابْنُ جَريرٍ الطبريُّ وَابْنُ الْمُنْذرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَابْنُ مِرْدُوَيْه، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كلُّهم عنِ ابْنِ عُمُرَ به.

وَأخرج ابْنُ أَبي حَاتِم عَن مَيْمُون بن مهْرَان ـ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: إِنَّ الرجلَ لَيُصَلِّي ويَلْعَنُ نَفسَهُ فِي قِرَاءَتِهِ فَيَقُول: “أَلا لعنة الله على الظَّالِمين” وَأَنه لَظَالِمٌ. فلا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ العليِّ العظيم.

قولُهُ تَعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} وَمَنْ: الواو: اسْتِئْنافِيَّةٌ و “مَن” اسْمُ اسْتِفهامٍ في مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدَأً به. و “أَظْلَمُ” خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و “مِمَّنِمن: جارٌّ، و “مَنْ” موصولٌ مَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ “أَظْلَمُ“، و “افْتَرَى” فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه تقديرُهُ “هو” يعودُ عَلى الاسمِ الموصولِ “مَنْ“، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ، و “عَلَى اللهِ” جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ “افْتَرَى“، و “كَذِبًا” مَفْعولٌ بِهِ، وقد نُكِّرَ، لتعدُّدِهِ وشُمُولِهِ، وإشارةً إلى فَظَاعَتِهِ.

قولُهُ: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} أُولَئِكَ: اسمُ إشارةٍ في محلِّ الرفعِ مُبْتَدأً بِهِ، و “يُعْرَضُونَ” فِعْلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمفعولِ، مرفوعٌ وعلامةُ رفعه ثباتُ النونِ في آخره كونَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، ونائبُ فاعلِهِ واوُ الجماعة المتصِلِ به، و “عَلَى رَبِّهِمْ” جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في محلِّ الرَفْعِ خبراً للمُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانيًّا والاستئنافُ لا مَحَلَّ له من الإعراب.

قولُهُ: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} وَيَقُولُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ عن الناصبِ والجازم وعلامةُ رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ على آخرِهِ، و “الْأَشْهَادُ” فاعلٌ به مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ على آخره، والأَشْهاد جمعُ شاهدٍ كصاحب وأَصْحاب، أو جمعُ شهيد كشريف وأشراف. والجملةُ مَعْطوفَةٍ على جُمْلَةِ “يُعْرَضُونَ“، فهي مثلها في محلِّ رفعٍ على الإخبارِ عن المبتدأِ “أُولَئِكَ“، و “هَؤُلَاءِ” اسمُ إشارةٍ ابتُدئتْ به الجملةُ فهو في محلِّ رفعٍ على الابْتِداءِ، و “الذين” اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ خَبَرِ اسمِ الإشارةِ المُبتدأِ به، والجملةُ في محلِّ النصبِ بالقولِ لـِ “يقول“، و “كَذَبُوا” فعلٌ ماضٍ وفاعلُهُ واوُ الجماعة المتَّصلِ به والألفُ للتفريق، والجملةُ صِلَةُ الاسمِ الموصولِ، و “عَلَى رَبِّهِمْ” جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ متعلق ب “كَذَبَ” والهاءُ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليها، والميمُ للجمع المذكّر.

قولُه:{أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} أَلَا: حرفُ تَنْبيهٍ، و “لَعْنَةُ” مُبْتَدَأٌ مُضافٌ ولفظ الجلالة “اللهِ” مضافٌ إليه، و “عَلَى الظَّالِمِينَ” جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رَفعِ خبرِه، والجُملةُ في محلِّ نَصْبِ بالقولِ.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com