المرأة في الغزل الصوفي (10)


والحُبُّ هذا الذي (يُعْمي ويُصمّ} كما قالَ النبيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: ((حُبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ)) (24) والذي قيلَ فيه :
أَصَمَّني الحُبُّ إلاّ عَنْ تَسامُرِهِ ….. فمَنْ رَأى حُبَّ حِبٍّ يُورِثُ الصَمَما
وكفَّ طَرْفي إلاّ عَنْ رِعايَتِهِ ……… والحُبُّ يُعمي وفيه القتلُ إنْ كُتِما
(25)
والحُبُّ، بعد ذلك، هو هذه العلاقة “التجاذبيّةُ” التي تَسري في الوجودِ فتَبُثُّ فيه الحياةَ، وهذه العلاقةُ هي سببُ وجودِهِ واستمرارِهِ، من النجومِ والكواكبِ وبقيَّةِ الأجرامِ السماويَّةِ، إلى الذَرَّةِ ـ التي هي أصغرُ مَوجودٍ، مُروراً بالإنسانِ والحيَوانِ والنباتِ.
فمعلومٌ أنَّ الأجرامَ السمَاويَّةَ ثابتةٌ في مَداراتها بالقوّةِ الجاذبةِ التي تعادلُ القوَّة َالنابذةَ المتولِّدةَ عن سُرعةِ الجَرْيِ في الفضاء، ولولا هذه الجاذبيَّةُ لتناثرتْ واصطدمَ بعضُها بالآخرِ فاحترقتْ وتفتّتتْ.
ومعلومٌ أيضاً أنَّ في الذَرَّةِ شُحَناً سالبةً وأُخرى موجِبَةً، ولكلٍّ منها مَسارُهُ ودائرتُهُ، وإنَّ بقاءها قائمٌ على هذه المعادلةِ التي إذا اختلّتْ دُمِّرَتِ الذرّةُ ودَمَّرتْ ما حولهَا .
أمَّا الكائناتُ الحيَّةُ، من إنسانٍ وحَيَوانٍ ونَباتٍ، فإنّ وجودَها جميعاً، قائمٌ على تلك العلاقةِ الحُبِّيَّةِ التَجاذُبِيَّةِ بين طرفَيْها، المذكّرِ والمؤنّثِ، وهي إنْ لم تكن مضبوطةً بقواعدَ ونُظُمٍ أيضاً اختلّت، وإذا اختلت دَمَّرتِ المجتمعَ الإنسانيَّ، فأصبح أقرب إلى البهيميّة، ولذلك فإنّ الشرع الحنيف، وضع لها نظاماً ضابطاً فيه مصلحةُ المجتمع وخيره .
فالحُبُّ، إذاً، هو الذي يحافظُ على بقاءِ هذا الوجودِ، وعلى استمراريَّتِهِ ولنا في هذا المعنى :
فالحُبِّ بالكونِ قَوّامٌ وأنهُرُنا …………….. بحارُهُ وبِنا الأكوانُ تحتفلُ
ما ضَرَّنا أنْ تَعامى عن شريعتِنا …… قومٌ؟ فقد كُذِّبتْ من قبلِنا الرُسُلُ
(26)
والإنسان بلا حُبٍّ ليس بموجودٍ ذا قيمةٍ ، بالغاً ما بلغ ، ولا شأنَ لهُ ـ في نَظَرِ القدّيس بولس الرسول، يقول: (لو تكلّمتُ بلغات الناسِ والملائكةِ ولا مَحَبَّة عندي فما أنا إلاّ نُحاسٌ يَطِنُّ أو صنجٌ يَرِنّ، ولو وهَبَني الله النبوّةَ وكنتُ عارفاً كلَّ سِرٍّ وكلَّ عِلْمٍ ولي الإيمانُ الكاملُ أنقُلُ به الجبالَ، ولا مَحَبَّةَ عندي فما أنا بشيءٍ (27)، (والحبُّ عند الشيخ الشاذلي ـ رضي الله عنه، هو أنْ تحِبَّ اللهَ وأنْ تحبَّ مَن أحببتَه لوجْهِ اللهِ على أنَّه خَلقٌ من خلقِه، يقول: (مَن أحَبَّ اللهَ، وأَحَبَّ للهِ فقد تمَّتْ وِلايتُهُ بالحُبّ). (28)
يقول العلامة الألوسي في تفسيره: إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كلِّ واحدٍ من الهويات.
والحكماء المتألِّهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر .
والحُبُّ هو السببُ الذي من أجله كان هذا الوجودُ، يقول الشيخُ الجيلي: (الحُبُّ أوّلُ تَوَجُّهٍ مِنَ الحَقِّ لوُجودِ العالمَ). (29). وذلك لما جاء في الحديث القدسيِّ: كنتُ كنزاً مخفيّاً فأَحببتُ أنْ أُعرفَ..) (30) {الحديث} ويضيف الجيليُّ أيضاً، في كتابه المسمّى ب “نسيم السَحَر:
الحُبُّ أَوَّلُ ذا الوُجودِ المُطلَقِ ………… والحُبُّ أخرجكم لخلقٍ مُرْتَقِ
بالحُبِّ كان الاِبْتِدا لِوُجودِنا …………… وبهِ الخِتامُ لمن دَرى بتحقُّقِ
لولا مَقامُ الحُبِّ أَعلى رُتبةً ………… ما كان اِسْمُ حبيبِهِ العبدَ التقي
فالحُبُّ عِلّةُ كلِّ أمرٍ ظاهرٍ …………… والحُبُّ شيمَةُ كلِّ عبدٍ مُتّقي
ليت شعري: هل علمتَ لِمَ أَحَبَّ المعبودُ ظهورَ هذا الوجود؟ أحبَّهُ لأنَّهُ أوجدَهُ نُسخةَ جمالِه وجلالِه، فكان بوجودِ العالمَ ِظُهورُ كمالِه، فأراد شُهودَ باطنِ صورةِ نفسِهِ في ظاهر ِالحِسِّ المجعولِ مِرآةً لقدسِهِ، ومَظهراً لهيبَتِهِ وأُنْسِهِ، فنَفْسُهُ المحبوبَةُ المَشهودةُ، ومَلاحَتُهُ المطلوبَةُ الموجودةُ، وكذالك محبَّةُ آدم لحواءَ لكوِنها خُلقتْ من ضِلْعِهِ شخصاً مستوياً، فالمحبوبُله إذاً، نَفْسُهُ والمَرغوبُ إليه حُسنُه، والمُشاهِدُ له حِسُّهُ). (31)
يقول الأب جورج رحمة تعقيباً على الحديث السابق (كنتُ كنزاً مخفيّاً .. ) برواية قريبة وبنفس المعنى: (يا لَلْعَجَب !! اللهُ في حاجةٍ إلى الإنسان، لا كضرورةٍ داخليَّةٍ أو خارجيَّةٍ تَدْفعُهُ إلى خلقِهِ ، بل كرغبةٍ صافيةٍ وإرادةٍ رشيدةٍ ليُشرِكَ في غِبطَتِهِ الإنسانَ الذي خلقَهُ على صورتِهِ كمثالِهِ) . (32)
ولذلك فإنَّ الحبَّ إنّما يستغرق الوجودَ كلَّ بما فيه، ومن فيه، وهذا الحبُّ هو سببُ استمرار هذا الوجود، وهو سببُ ازدهارِهِ، كما كان سببَ وجودِه . وفي هذا المعنى أقول :
أنا روحٌ تضُمُّ الكونَ حبّاً ……………….. وتُطلِقُهُ فيزدهرُ الوجودُ
والمحبَّةُ عند الجُنَيْدِ ـ رضيَ الله عنه: (دخولُ صفاتِ المحبوبِ على البَدَلِ من صفاتِ المحبِّ). (33) وسُئل يوماً عن المحبَّةِ فأطرقَ رأسَهُ ودَمعتْ عيناهُ فأجاب: عبدٌ ذاهبٌ عن نفسِه، متَّصلٌ بذكرِ ربِّهِ، أحرقَ قلبَه أَنوارُ هَيبتِهِ، وصفاءُ شُرْبهِ من كأسِ وِدِّهِ، وانْكِشفَ لهُ الجبّارُ عن أَستارِ غيبِهِ ، فإنْ تكلّم فبالله، وإنْ نَطقَ فعن اللهِ، وإن تحرَّك فبأمرِ اللهِ، فهو باللهِ وللهِ ومع الله). (34) أمّا ذو النون المصريُّ ـ رحمه الله تعالى، فإنَّه يقول: إنّ للهِ عباداً مَلأَ قلوبَهم من فيضِ محضِ محبَّتِهِ، وفَسَح أَرواحَهم بالشوقِ إلى رؤيته (35).
ويقول الأستاذُ محمّدُ الراشد:(إنّه الحبُّ ، فبِالحُبِّ الإلهيِّ وحدِهِ يحيا الصوفيُّ، لذلك كان هاجسَهُ الأبَديَّ السعيُ الحثيثُ إلى مَعرفةِ مَنْ يحبُّ). (36)
يقول السيد أحمد بن محمد ديركي الهاشمي في مَعْرِض شَرْحِهِ القصيدةَ العينيَّةَ للشيخ عبد الغني النابلسيِّ ـ رحمه الله: الحبُّ تفاعلٌ بين الأسماء الشريفةِ الحسنى والذات المقدَّسةِ عن الأفهام والتصاوير، وأصلُ الحبِّ إشعاعٌ مبثوثٌ من الذات وهي “الحبيب” فالحبيبُ هو الاسم الأعظم الذي يبحث عنه كلُّ العلماءِ والعُبّادِ .
وليس الاسمُ مجرَّدَ لفظٍ فقط، بل تفاعلٌ بين قطبين، والقطبان موجودان في كلِّ شيء، فما إنْ يتمُّ التفاعلُ حتّى يظهَرَ الحقُّ ويَبْطُلَ الفاني .
ولا يتمُّ التفاعلُ سوى بحبَّ النقيضين وإرجاعهما لأصلٍ واحدٍ انبعثا منه، وهو {الحبيب} فسِرُّه سارٍ في كلِّ الأجساد والأرواح والأشباح والأشياء من الذرَّة إلى المجرّة ، بل هو ذاته كلُّ هذا ، فلا موجودَ سواهُ ، ولا إله إلاّ الله .. وكلُّ شيءٍ قد أخذ من الحبيب ما قد أعطاه له الحبيب ، لذا تباينت أفهام كلٍّ من المخلوقات ، الواحد منهم عن الآخر ، ففهِمَ كلُّ مخلوقٍ الحُبَّ خلافَ الذي فهِمَهُ الآخرُ ، وتلك عموميَّةٌ على كلِّ الخلقِ والأشياءِ:
1- فالسالبُ يَطلُبُ الموجِبَ لاستكمال الدائرةِ الكاملة .
2- والذكرُ يطلُبُ الأنثى ليستكملَ نقصَهُ ونقصَها بكمالهما معاً.
3- والصانعُ يطلُبُ المصنوعَ لأنَّه جِزءٌ منهُ ، أو من فكرِه أو جُهْدِه .
4- والروحُ تطلُبُ النفسَ لتقومَ بها في عالم الظهور .
5- والنفسُ تطلُبُ الهوى لاستكمالِ صراعِ البقاءِ والظهورِ والنسلِ .
6- والهوى يطلُبُ الطيّباتِ يُزيِّنُ بها ذاته. (37).
ولا محبَّة بغيرِ معرفةٍ تامّةٍ بمن تُحبّ ، فكلَّمَا عَرَفَ المُحِبُّ محبوبَه كلَّما ازدادت محبَّتُه له، وإنّما تكونُ المحبَّةُ على قدَرِ المعرفةِ .يقول الإمام الغزاليُّ: (وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها). (38) ثمَّ إنَّ هذه المحبَّةَ هي قَدّرٌ على العبدِ ، فالقلوبُ بين أُصبعين من أصابعِ الرحمنِ يُقَلِّبُها كيف يشاءُ ،كما نَصَّ الحديثُ الشريفُ: ((إنَّ القلوبَ بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقَلِّبُها كيف يَشاء)). (39) وفي هذا المعنى أقول:
فالحُسْنُ مًظْهَرُهُ والقلبُ في يَدِهِ ….. والحُبُّ قِسْمَتُهُ، مَنْ يَغْلِبُ القَدَرا؟
روحٌ تُحِبُّ، وروحٌ يُسْتَهامُ بها …… والروحُ واحدةٌ، فاسْتعمِلِ النظَرا
(40)

المرأةُ في الغزل الصوفي (9)


ثانياً: تعريفُ الحبِّ: جاءَ في كتابِ (جامِعِ أَسْرارِ الطُبِّ) للحَكيمِ عبدِ المَلِكِ بْنِ زُهرٍ القُرْطُبيِّ في بَيانِ سَبَبِ الحُبِّ قولُهُ: (العِشْقُ الحِسِيُّ إنَّما هوَ مَيْلُ النَفْسِ إلى الشِيْءِ الذي تَسْتَحْسِنُهُ وتَسْتَلِذُّهُ، وذلك أَنَّ الروحَ النَفْسانيَّ الذي مَسْكَنُهُ الدِمَاغُ قَريبٌ مِنَ النُورِ البَصَرِيِّ الذي يُحيطُ بالعَيْنِ، ومُتَّصِلٌ بِمُؤَخِّرِ الدِمَاغِ، وهوَ الذّكْرُ، فإذا نَظَرَتِ العَيْنُ إلى الشَيْءِ المُسْتَحْسَنِ انضَمَّ النُوريُّ البَصَرِيُّ وارْتَعَدَ، فبذلكَ الانْضِمامِ والارْتِعادِ يَتَّصِلُ بالرُوحِ النَفْسانيِّ، فَيَقْبَلُهُ قَبُولاً حَسَناً، ثمَّ يُودِعُهُ الذُّكْرَ فيُوجِبُ ذلكَ المحبَّةَ. ويَشْتَرِكُ أَيْضاً بالرّوحِ الحَيَوانيِّ الذي مَسْكَنُهُ القَلبُ لاتِّصالِهِ بِأَفْعالِهِ في الجَسَدِ كُلِّهِ فحينَئذٍ تَكونُ الفِكْرَةُ والهَمُّ والسَهَرُ). (7)
وسُئِلَ أَفْلاطونُ عَنِ العِشْقِ مرَّةً فَقالَ: ما أدرى ما الهوى؟! غير أني أَعْلَمُ أَنَّهُ جُنونٌ إلهيٌّ لا محمودٌ ولا مَذموم. (8).
وسُئِلَ عَنْه أيضاً فقالَ: حَرَكَةُ النفسِ الفارِغَةِ بغير فكرة. (9)
وقال فيلسوف ثالث: لم أَرَ حقّاً أَشْبَهَ بباطلٍ منَ العِشْقِ، هَزْلُهُ جِدٌّ، وجِدُّهُ هَزْلٌ، أَوَّلُهُ لَعِبٌ وآخرُهُ عَطَبْ:
إنَّ الهوانَ هو الهوى جَزَمَ اسمُهُ ……….. فإذا لَقيتَ هَوًى لقيتَ هَوانا
(10)
وقالَ الشاعرُ ابْنُ الدُمَيْنَة أَيْضاً :
هلِ الحُبُّ إلاّ زَفْرَةٌ بَعْدَ زَفْرَةٍ ……… وحَرٌّ عَلى الأَحْشاءِ ليْسَ لَهُ بَرْدُ
وفيضُ دموعِ العَينِ يَهْمي كُلَّما ….. بَدا عَلَمٌ مِنْ أَرْضِكم لم يَكُنْ يَبْدو
(11)
وقال بعضُ الصُوفيَّةِ: الهوى محنةٌ امْتَحَنَ اللهُ بها خَلْقَهُ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ على طاعتِهم لخالقِهم ورازقِهم. (12)
وقيلَ لِبَعْضِهم ما العِشْقُ؟ فقال: ارْتِياحٌ في الخُلْقةِ وفَرَحٌ يَجولُ في الرُّوحِ، وسُرورٌ يَنْسابُ في أَجْزاءِ القُوى. وينسابُ في الحَرَكاتِ، وهوَ طَرْفُ الخُلْقَةِ، ولَفْظُ اللَّحْظِ، وضَميرُ الحركات، وبَشاشَةُ الخَواطِرِ، وطُرَفُ الفِكْرِ، وللنفسِ والعِشْقِ أُنْسُ النَفْسِ، ومحادثُ العَقْلِ، وحاجِبُهُ الضِمائرُ ، وتخدمُهُ الجَوارِحُ، والهوى لِمَنْ هوَ بِهِ أَكْثَرُ لِمَنْ هُوَ لَهُ. وَأنْشَأَ يَقولُ:
قدْ كُنْتُ أَسمَعُ بالمُحِبِّ وشَجْوِهِ ……………. فَأَظَلُّ مِنْهُ عاجِباً أَتَفَكَّرُ
حتى ابْتُلِيتُ مِنَ الهوى بِعَظِيمِه ………… ظَلَّ الفُؤادُ مِنَ الهَوى يَتَفَطَّرُ
(13)
والحبُّ تعلُّق القلب بالمحبوب على وجه الاستئناس بقُربِه والاستيحاش من بُعده. فقد حُكِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنِ الحُسَينِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَ مغارَةً مَعَ أَصْحابٍ لَهُ، فرَأَى امْرَأَةً في المغارَةِ وحدَها، فقالَ لها: مَنْ أَنْتِ؟ قالت: أَمَةٌ مِنْ إِماءِ اللهِ، إِلَيْكَ عَني لا يَذْهَبُ الحُبُّ. فقالَ لها: وما الحُبُّ؟ قالت: هُوَ أَظْهرُ مِنْ أنْ يخفى، وأَخْفى مِنْ أَنْ يُرى، كامِنٌ كُمونَ النارِ في الحَجَرِ، إنْ قَدَحْتَه أَوْرى، وإنْ تركتَهُ توارى. ثمَّ أنشأت تقول مِنَ البَسيط:
إنَّ المحبينَ في شغلٍ لسيِّدهم ……… كَفِتْيَةِ الكهفِ لا يدرون كم لبثوا
(14)
وسُئلَ يحيى بنُ مُعاذٍ عن حقيقة الحب فقال: الذي لا يَزيدُه البِرُّ ولا يُنقِصُه الجَفاء. (15).
والحبُّ يقتضي التذلُّلَ والخضوع لمن تحبُّ, وغايتُه وأرفعُ درجاتِه أنْ تعبُدَه، لأنَّ العبادةَ معناها الخضوعُ والتَذَلُّلُ مَعَ الحُبِّ. قالَ ابْنُ القَيِّمِ: والعِبادَةُ تَجْمَعُ أَصْلين، غايةَ الحُبِّ بغايةِ الذُلِّ والخُضوعِ، والعَرَبُ تقول: طريقٌ معبَّدٌ أي مذلَّلٌ، والتعبُّدُ التذلُّلُ والخضوعُ، فمَن أحببتَه ولم تَكن خاضعاً له لم تكن عابداً له، ومَن خضعتَ له بلا محبَّةٍ لم تكن عابداً له حتى تكون محبّاً خاضعاً. (16)
وقال أيضاً: العبادة هي الحُبُّ مع الذُلِّ؛ فكلُّ مَن ذَلَلْتَ له وأطعتَه وأحببتَه، دون الله، فأنت عابدٌ له). (17).
وقالَ ابْنُ تَيْمِيةِ: فالإلهُ الذي يَأْلَهُهُ القلبُ بِكَمالِ الحُبِّ والتعظيمِ والإجلالِ والإكرامِ والخوفِ والرجاءِ ونحوِ ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبُّها اللهُ ويرضاها، وبها وصف المصطَفَيْن من عِبادِه وبها بعثَ رسلَه. (18).
والحبّ؛ هو ثمرة العلم بجمالِ الربّ وكماله وإنعامه وإحسانه؛ لأنّ القلوب مجبولة على محبّة الكمال، وعلى محبّة من أحسن إليها. والمحبّة الَّتي يثمرها العلم بهاتين الصّفتين أكمل أنواع الحبّ القلبي؛ وهي محبّة التألّه الَّتي إذا استقرّت في القلب أورثت أهلها كمال الاتّباع والإيثار، وموافقة الربّ في محبوباته ومكروهاته ظاهرًا وباطنًا. يقول العلاّمة الألوسي مُقَسِّماً المحبّةَ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: محبّةُ العوامّ، وهي مطالعةُ المنَّةِ من رؤيةِ إحسان المحسن (جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها) وهو حبٌّ يتغيّر ، وهو لمتابعيِّ الأعمال الذين يطلُبون أجراً على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:
وما أنا بالباغي على الحبِّ رِشْوةً ….. ضعيفُ هوًى يُرجى عليه ثواب
القسم الثاني: محبة الخواصّ المُتَّبعين للأخلاق الذين يحبونَه إجْلالاً وإعظاماً ولأنَّه أهلٌ لذلك ، وإلى هذا القسم أشار {صلى الله عليه وسلم }بقوله : نعم العبدُ صهيبٌ ، لو لم يخَفِ اللهَ لم يَعْصِه ، وقالت رابعة العدويّةُ ـ رحمها الله تعالى:
أُحبُّك حُبّين: حُبُّ الهوى ……………….. وحُبٌّ لأنّك أهلٌ لِذاكا
وهذا الحبُّ لا يتغيّر إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد .
القسم الثالث: محبّةُ خواصّ الخواصّ المتَّبعين للأحوال، وهي الناشئةُ من الجَذْبةِ الإلهيّة في مكامن «كنتُ كنزاً مخفيّاً..» وأهل هذه المحبّةِ همُ المستعدّون لكمالِ المعرفة ، وحقيقتُها أنْ يفنى المُحبُّ بسطوتها فيبقى بلا هو، وربمّا بقي صاحبُها حيرانَ سكران لا هو حيٌّ فيُرجى ولا ميّتٌ فيُبكى، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إنّ الحُبَّ كالنار في الحشا …… ألا كذَبوا فالنارُ تَذْكو وتَخمد
وما هو إلاّ جَذوةٌ مسّ عودها ………. ندًى فهي لا تذكو ولا تتوقد
ويكفي في شرحُ الحُبِّ لفظُه ، فإنه حاء وباء ، والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية ، ففيه إشارةٌ إلى أنَّ الهوى ما لم يستولِ على قلبِه ولسانِه وباطنِه وظاهرِه وسرِّه وعَلَنِه لا يُقالُ له : حب ، وشرحُ ذاك يطول ، وهذه محبّةُ العبد لربّه ، وأمّا محبّة ربّه سبحانه له فمختلفة أيضاً، وإن صَدَرتْ من محلٍّ واحدٍ فتعلّقت بالعوامّ من حيثُ الرحمة، فكأنَّه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمتِه، وتعلقت بالخَواصّ من حيث الفضلُ فكأنّه قِيل لهم: اتّبعوني بمكارم الأخلاق يخصّكم بتجلي صفاتِ الجمال ، وتعلقت بخواصِّ الخواصّ من حيث الجذبةُ فكأنّه قيل لهم : اتّبعوني ببذل الوجودِ يخصّكم بجذبِهِ لكم إلى نفسِه، وهناك يرتفع البَوْن من البيْن، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرةُ من هذه المحبَّةِ تُغْني عن الغدير. (19)
وحُبُّ الله واجبٌ شرعيٌّ وحقيقة واقعة وليس مجرّد دعاوى وعواطف لا حقيقة لها في الواقع، كما يتوهّمه المغرورون، أو مجرّد محبّة عقليّة تعنـي إيثار ما يقتضي العقل السّليم رَجَحانُه، كما يَزعُم الجَهْميّةُ نُفاةُ المحبّةِ؛ إذِ الربُّ عندَهم لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ؛ لأنّ المحبّةَ لا تَكون إلاّ لمِناسبةٍ بين الجانبين، ولا مناسبة بين القديم والمُحْدَث !
ومن حكمته تعالى أنْ فطر عباده على أنْ يكون جلالُ المحبوب وجمالُه أعظمَ دواعي الحُبِّ في قلوبهم ، فالقلب يحبُّ كلَّ جميلٍ، ويتعلَّق بكلِّ جليلٍ، ومن هنا تعلَّقت القلوب بربِّها لعظمتِه، وكمالِ أوصافهِ ، وجلالِهِ وجمالِهِ .وقد كذَّبَ القرآنُ مقالتَهم في نُصوصٍ كثيرةٍ ؛ كقولِه تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا مَنْ يرتدَّ منكم عن دينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. (20). وقوله: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}. (21). والحقّ خلاف ما عليه هؤلاء وهؤلاء؛ فإنّ محبّة الله تعالى تملأ القلب، وتستتبع آثارها الظّاهرة والباطنة؛ التزامًا بالشّرع، واتّباعًا لأحكامِهِ وتقديمًا له على كلّ محبوبٍ، قال تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ويغفر لكم ذنوبكم} (22)، وقال: {قُلْ إنْ كَانَ آباؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (23)

المرأةُ في الغزل الصوفي (7)


وللشيخ عبدِ الغَنِيِّ النابُلسيِّ ـ رحمهُ اللهُ تَعالى، في هذا المعنى :
ظهر الوُجودُ بسائرِ الأشياءِ …………….. متجلِّياً جَهْراً بغير خَفاءِ
والكلُّ فيه هالكٌ قد قالَ إلاّ …………….. وجهَهُ الباقي عظيم بَقاءِ
واعْلَمْ بأنَّكَ لا تَرى مِنْه سِوى ………….. ما أنتَ رائيهِ مِنَ الأشياءِ
إذْ أنت شيءٌ هالكٌ في نُورِهِ …………… والنورُ يحرُقُ حلَّةَ الظَلْمَاءِ
والفيءُ يكشفُ أَنَّ ثمةَ شاخصاً ……………. متحكِّماً فيهِ بغيرِ مِراءِ
(80)
إذاً هم ينظرون إلى الخلق بعين الحقِّ، ولولا إثباتُ الحقّ للخلق بخطابِهِ لهم، ما ثَبُتَ عندَهم وجودُ الخلقِ البَتَّةَ، فعِلَّةُ العِلَلِ عندَهم رؤيةُ الخلق، يقول الشَشْتُري ـ رحمَهُ اللهُ تَعالى:
طهّرِ العينَ بالمدامعِ سَكْباً …………. مِنْ شُهُودِ السِّوى تَزُلْ كُلُّ عِلَّهْ
(81)
ويقول آخر:
والمَرْءُ غفلتُهُ عن ربِّه ………………….. جَلَّ, مِن أدْهى المُصيباتِ
ويقولُ ابْنُ الفارِضِ ـ رحمهُ اللهُ تَعالى:
إذا أنعمتْ نُعْمٌ عليَّ بنظرةٍ …… فلا أسعدتْ سُعدى ولا أجملتْ جُمْلُ
وقد صدئت عيني برُؤيةِ غيرِها …….. ولَثْمُ جُفوني تُرْبَها للصَدى يجلو
(82)
يقول الغوث أبو مَدين ـ قَدَّسَ اللهُ سِرِّهُ:
وفي السِرِّ أَسْرارٌ دِقاقُ لَطيفةٌ ……….. تُراق دِمانا جَهرةً لو بِها بُحْنا
(83)
أَمّا الإمامُ السُهْرَوَرْديّ فيقول ـ رحمهُ الله:
بالسرِّ إن باحوا تُباحُ دماؤهم ………….. وكذا دماءُ البائحينَ تُباحُ
(84)
وما أجمل قول نزار قبّاني الذي لم يَسْتَطِعِ البَوْحَ باسْمِ مَنْ يُحب صراحةً فباحَ بِهِ رَمْزاً بِصُورٍ لا أَبْدَعَ ولا أجملَ، يقول :
لا تَسْألوني ما اسمُهُ حبيبي ………….. أخشى عليكم ضَوْعَةَ الطُيوبِ
واللهِ لو بُحْتُ بأيِّ حَرْفٍ …………….. تَكَدَّسَ اللّيلَكُ في الدُروبِ
ترونهُ في ضِحْكةِ السواقي …………….. وفي عَطاءِ الديمةِ السَكوبِ
في الليلِ في تَنَفُّس المَراعي ………………… وفي غِناءِ كلِّ عَندليبِ
(85)
وهذه الأسرار هي أسرارُ الذاتِ وأنوارُ الصفات التي تجَلّى الحقُّ بها في مَظْاهرِ الأَكْوان .
وفي هذا المقامِ قالَ أَبُو بَكْرٍ الصِدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (ما رَأَيْتُ شيئاً إلاَّ ورَأَيْتُ اللهَ قَبْلَهُ) وقد تقدَّم، أَمَّا أَهْلُ الحِجابِ، مِنْ أَهلِ الدَليلِ والبًرهانِ، فإنَّهم يَشْهَدون الكَوْنَ ولا يَشْهَدون المُكَوِّنَ، لأَنَّهم إِنَّما يَسْتَدِلُّونَ على وُجودِهِ بِوُجودِ خَلْقِهِ، فقَدْ حُجِبوا عَنْ شمُوسِ المَعارِفِ بِغيومِ الآثارِ، لكنْ لا بُدَّ للحَسْناءِ مِنْ نِقابِ، يقولُ سَيِّدِي أَبو العَبَّاسِ المرسِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه:
وما احتجبَتْ إلاّ بِرفعِ حِجابِها ………. ومِنْ عَجَبٍ أنَّ الظُهورَ تَسَتُّرُ
(86)
ويقولُ أَميرُ المؤمنينَ عليٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (الحمْدُ للهِ المتجلّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ). (87) لأنَّ ذاتَ الحقِّ، ـ جَلَّ وعَلا، لا يمكنُ إدراكُها, فعَقْلُنا لا يُدرِكَ إلاَّ ما تُعْطِيهِ إيَّاهُ حَواسُّهُ التي لا تُحِسُّ إلاَّ بالمادةِ المخلوقةِ، واللهُ سُبْحانَهُ، ليس بمادَّةٍ ليُدْرَكَ، ولذلك كانَ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ لَنا في ما صَنَعَ، لأنَّ الصنْعَةَ تَدُلُّ عل الصانِعِ ، وبها يُعرَفُ، ونحنُ لا يمكنُ أَنْ نَتَعَرَّفَ على روحِ إنسانٍ إلاّ مِن خلالِ الجسدِ الذي هو مَظهرُها، فكيفَ بخالقِها؟ ويَقول أَيْضاً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكَرَّمَ وجْهَهُ: (بها تَجلَّى صانِعُها للعُقولِ وبها امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ العيون). (88)
فإنْ ظَهَرَ الصُوَريُّ فالمَعْنويُّ مُظْهِرٌ لَهُ، وإنْ ظَهَرَ المَعْنويُّ فالصُوَريُّ مَظْهَرٌ لَهُ. لذلك فإذا تَغَزَّلَ شُعراءُ المُتَصَوِّفَةِ بالجمَالِ فهم يُمَجِّدونَ اللهَ في جميلِ خَلْقِهِ، وهُمْ بَعيدونَ عَنْ كُلِّ مَقْصِدٍ مُخالِفٍ للشَرْعِ الإسلاميِّ الحَنيفِ، يقولُ الشيخُ أَمينُ الجُنْدِيُّ ـ رَحمهُ اللهُ:
أَميلُ إلى شكلِ المَليحِ إذا بَدا …………. يلوحُ بخَدٍّ قَدْ شَجاني تَوَرُّدُهُ
وما مَقْصِدي فِعْلُ القبيحِ وإنَّما …… أَرَدْتُ بِذا تَسبيحَ مَن هو مُوجِدُهُ
وما أنا في ذا الفعلِ باغٍ وإنّما ………….. أُشاهدُ صُنعَ اللهِ ثمَّ أوحِّدُهُ
(89)
والجمالُ الإلهيُّ له مَعانٍ وهي الأسماءُ والصفاتُ الإلهيَّةُ، ولَهُ صورةٌ، وهي تجليّاتُ تلك المعاني فيما يَقع عليه المحسوسُ، أوِ المَعقولُ ، فالمحسوسُ كما في قولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم: ((رأيتُ ربّي في أحسنِ صورةٍ)). (90). وزاد في إحدى الرِوايات ((شابّاً أَمْرداً)).
والمعقول كالحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي وأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُني فإنْ ذَكَرني في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسي، وإنْ ذَكَرَني في مَلأ ذَكَرْتُهُ في مَلأٍ هُمْ خيرٌ مُنْهم، وإنِ اقْتَرَبَ إلي شِبراً، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإنْ تَقَرَّبَ إليَّ ذِراعاً اقْتَرَبْتُ إليْهِ باعاً، وإنْ أَتاني يمشي أَتَيْتُه هَرْوَلَةً). وزاد الحاكمُ في مُسْتَدْرَكِهِ (فَلْيَظُنَّ بي ما يشاء). (91). يقولُ الأستاذ محمّد الراشد: (فحينما يَصْرَخ الصوفيُّ: لا موجودَ إلاّ اللهُ يَعني ما تَعنيه الفيزياءُ والرياضيّاتُ الحديثةُ، مِنْ كَوْنِ العالمِ كَحقيقَةٍ، مجرّدَ وَهْمٍ أوْ شَيْءٍ مِنْ هذا القبيل. ثمَّ يُضيف: تُرى ما هي الطاقة؟ الطاقةُ تُشَكِّلُ الكونَ كُلَّهُ. باعتبار كلِّ شيءٍ قابلٌ للتحوُّلِ إلى طاقة، والعكسُ صحيحٌ بالضرورةِ. تُرى هل الطاقةُ ذلك الإشعاعُ أوْ التجلّي الإلهي أي ذلك الصدورُ للذاتِ الإلهيَّة؟). (92).
و في الختام لا بدّ مِنْ أَنْ أُنَبِّهَ إلى أمرٍ غاية في الأهميّة، وهو أنّ كلّ الذين درسوا الشعر الصوفي وغزلَ المتصوِّفَةِ، قد اتخذوا التأويلَ مِنهجاً لفهم تَغَزُّلِ شعراءِ السادةِ الصوفيَّةِ بالمرأَةِ، فعوَّلوا أحياناً على رُموزٍ ما أظنُّها خَطَرَتْ ببالِ هؤلاءِ الشُعراء وهم يُبْدِعون قَصائدَهم مُعَبِّرين عن مواجدِهم، ومُتَرجمين أشواقَهم وأَحْوالهم التي مرّوا بها وهم يرتقون في مَدارِجِ الكَمال. والأمر بسيطٌ جداً لا يحتاج منّا كلَّ هذا التعقيد، لأنّ الصوفيَّ الحَقَّ إنّما يَنظرُ إلى المخلوقاتِ جميعاً على أَنّها صُنعَةُ الخالقِ سبحانه، التي أَبْدَعَها لِتَكونَ مَظاهرَ تَجلّيهِ وسبيلَ معرفتِهِ، لأنّه يَستحيلُ على الحادثِ العاجزِ أَنْ يَعرِفَ حقيقةَ القديمِ المُطلَقِ: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير} (93)
فاقتضتِ الحكمةُ أنْ يَتَجلّى القديمُ في الحادثِ، والمطلقُ في المحدودِ، لتَظهَرَ عليه صِفاتُهُ ـ جَلَّ وعَلا، إنَّما بشكلٍ مَجازيٍّ. فأنْتَ تُوصَفُ بالعِلْمِ، والعِلْمُ مِنْ صِفاتِهِ ـ تبارَك وتَعالى، كما أَنَّكَ تُوصَفُ بالقُدْرَةِ والإرادةِ والحياةِ والسمعِ والرحمةِ والجَمالِ والجَلالِ .. وكلُّها صفاتُهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ، ولكن أينَ صِفاتُك الحادثةُ الفانيَةُ المحدودةُ من صفاتِهِ القديمةِ الباقيةِ المُطلَقَةِ؟ فقد (خَلَقَ اللهُ آدمَ على صُورَتِهِ). (94) أَيْ مَظهراً لِصِفاتِهِ ومِثالاً، فالكَوْنُ ـ كلُّ الكونِ، والمخلوقاتُ ـ جميعُ المخلوقاتِ، قائمةٌ بقَيوميَّتِهِ، ظاهرةٌ فيها صفاتُهُ ساريةٌ فيها أسماؤهُ وأفعالُهُ، فبها نَعرِفُهُ وتلك هي الغايةُ من خلقِنا: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبُدون}. (95). والمعرفةُ قِمَّةُ العِبادةِ لأنَّ العبادةَ بدونِها جِسْمٌ لا روحَ فيه.
جاء في الحديثِ القُدسيِّ: (كُنتُ كنْزاً مَخْفِيّاً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ وتعرَّفْتُ إليهم فبي عَرَفوني). (96)
ولذلك أَقْسَمَ سَيِّدُ الطائفتن الجنيد ـ قُدِّسَ سِرُّهُ، بأنَّهُ (ما عَرَفَ اللهَ إلاَّ اللهُ). (97). لأنَّ العارفَ به سبحانه. إنّما هوَ السِرُّ الإلهيُّ الذي أَوْدَعَهُ في خلقِهِ، ف (ما عَرَفَ اللهَ إلاّ اللهُ).
وحَكُوا عَنِ الشَّافِعِيِّ رحمِه اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ انتهضَ لطلبِ مُدَبِّرِهِ فَانْتَهَى إِلَى مَوْجُودٍ ينتهِي إِلَيْهِ فِكْرُهُ فهو مُشَبِّهٌ، وإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى العدمِ الصّرفِ فهو مُعَطِّلٌ، وإِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى مَوْجُودٍ وَاعْتَرَفَ بِالعجزِ عَن إِدرَاكِهِ فهو مُوَحِّدٌ، وهو معنَى قَوْلِ الصّديقِ رضِي اللَّه عَنْهُ: العَجْزُ عَنِ دَرْكِ الإِدرَاكِ إِدرَاكٌ. وَقَدْ قِيلَ:
حَقِيقةُ المَرْءِ لَيْسَ المَرْءُ يُدْرِكُهَا …….. فَكَيْفَ كَيْفِيَّةَ الجبَّارِ فِي القِدَمِ؟!
(98)
أمّا الذاتُ الإلهيَّةُ فمِنَ المُستحيلِ إدْراكُها. أَلم تَرَ إلى سيدِنا موسى
ـ عليه السلامُ، عندما طَلَبَ النَظَرَ إليه سبحانَه كيف أُجيبَ ب (لن تراني). (99). وَوُجِّهَ إلى الجبلِ ليَنْظُرَ إليهِ حيثُ ظَهَرَ عليهِ التَجَلّي الإلهيِّ.
قال الشيخ روزبهان البَقلي الشيرازي في تفسيرِهِ المُسَمَّى: عَرائسَ البيان. كان موسى ـ عليه السلامُ، في بداية حالِهِ في مقامِ العِشْقِ والمحبَّةِ، وكان أكثرُ أَحوالِ مُكاشَفَتِهِ في مقامِ الالْتِباسِ، فلمَّا كانَ بَدْوُ كَشْفِهِ جَعَلَ تَعالى الشَجَرَةَ والنَّارَ مِرآةً فِعْلِيَّةً فَتَجَلَّى بِجَلالِهِ وجمالِهِ مِنْ ذاتِهِ لموسى، وأَوْقَعَهُ في رُسُومِ الإنْسانِيَّةِ حتى لا يَفْزَعَ ويَدْنو مِنَ النَّارِ والشَجَرَةِ، ثمَّ ناداه فيها بعدَ أَنْ كاشَفَ لَهُ مُشاهَدَةً جلالَهُ، ولولا ذلك لَفَنيَ مُوسى في أَوَّلِ سَطَواتِ عَظَمَتِه وعِزَّتِهِ. (100) .
وهكذا نَرى الحقَّ ـ جلّ وعلا، يُرْشِدُنا إلى ما باسْتِطاعَتِنا إدراكُهُ للنَنظُرَ فيه فَنُدرِكَ عَظَمَةَ الخالقِ بعظمةِ صُنْعِهِ فنتعرّفَ عليه بها لأنَّ عَظَمةَ الصنعةِ خيرُ دليلٍ على عظمةِ الصانع: {أفَلا يَنظرون إلى الإبِلِ كيف خُلِقَتْ، وإلى السَمَاءِ كيف رُفِعَتْ، وإلى الجبالِ كيف نُصِبَتْ، وإلى الأرضِ كيف سُطِحَتْ. (101).
كما وصفَ سبحانه، عبادَهُ وخاصَّتَهُ مِنْ خَلْقِه في مُحكَمِ كتابِهِ بقولِهِ (الذين يَذْكرون اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهمْ ويَتَفَكّرون في خَلقِ السَمَواتِ والأرضِ، ربَّنا ما خلَقتَ هذا باطلاً سبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النار} (102) ولم يَقُلْ ويَتفكرون في خالقِ السمواتِ والأرضِ، لأنَّ عقولَنا مَجالهُا الحِسّيُّ المَلموسُ، ويَستحيلُ عليها مَعرِفةُ المُطلَقِ الذي تَستحيلُ الإحاطةُ به، وإنّما نَعرفُهُ مِن صِفاتِهِ وأفعالِهِ، الظاهرُ في خَلْقِهِ ظِلُّها ومِثالُها.
والمرأةُ هي إحْدى هذه المَجالي، بلْ أكثرُها جَذْباً، لأنّها السالبُ لموجِبِهم، وتلكَ هي العلاقةُ التي قام عليها الوجودُ كلُّهُ “سالبٌ ومُوجِبٌ”. فالذي يَشُدُّ الكواكبَ والأَجْرامَ السَمَاوِيَّةَ ـ بعضَها إلى بعضِها الآخر، هي الشُحناتُ السالِبَةُ والمُوجِبَةُ، والسالبُ والمُوجِبُ، أَوِ المُذَكّرُ والمُؤنّثُ، هو سِرُّ استمرارِ الحياةِ في الكائنات الحيَّةِ جميعاً، حتّى الذرّةُ ـ أَصْغرُ المَوْجوداتِ، فالسالبُ والمُوجِبُ سِرُّ وُجودِها وأَساسُ حياتِها, والدمارُ والخرابُ إنَّما يكون باخْتِلالِ هذِهِ العلاقةِ الحبيَّةِ الجاذبيّةِ وبتدميرِها .
“بعدُ، لا بُدَّ لنا من التَنْبيهِ إلى الفرقِ الأساسيِّ بين غَزَلِ الصوفيّينَ وغَزَلِ غيرِهم، وهذا الفارقُ هو نَفْسُهُ ما بين نَظرةِ كلٍّ منهم إلى الوُجودِ. فالصُوفيُّ يَنظُرُ إلى المَوْجوداتِ على أنّها مَظْهَرُ تَجليَّاتِ الحقِّ سبحانه، فتَكونُ سَبيلَهُ إلى التعرُّفِ بخالقِهِ، أوْ هَمْزةَ الوصْلِ بينَه وبين خالقِه ـ جَلَّ ثَناؤهُ، بينمَا يَقفُ غيرُهُ عندَ هذه المَظاهرِ، ثمَّ إنّهُ ثمَّة حدودٌ شَرعِيَّةٌ يَلتزم بها، ويَقِفُ عندها بينمَا قد يَتعدّاها غيرُهُ”. (103).
وقبل أن نختم هذا الباب نودُّ العودَةَ إلى حديثِ: ((خلق اللهُ آدَمَ على صُورَتِهِ)). لِنَقِفَ على ما جاءَ في سِفْرَ التَكوينِ مِنَ التَوْراةِ حيثُ جاءَ فيهِ: (وقالَ اللهُ: لِنَصْنَعَ الإنسانَ على صورَتِنا كَمِثالِنا ولِيَتَسَلَطْ على أَسماكِ البَحْرِ، و طُيورِ السَماءِ، والبَهائم، و جميعِ وُحُوشِ الأَرْضِ، و جميع الحيَوانات التي تَدبُّ على الأرضِ. فخَلَقَ اللهُ الإنْسانَ عَلى صُورَتِهِ، على صورةِ اللهِ خَلَقَهُ ذَكَراً وأُنثى). (104).
يَقولُ مُفَسِّرو التَوراةِ: إنَّ المَقْصودَ بِكَوْنِ الإنْسانِ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ اللهِ هوَ ما يَتَمَيَّزُ بِهِ الإنْسانُ عِنِ الجماداتِ والنَباتاتِ والحيَواناتِ بالعَقْلِ الكاملِ والقدرةِ على النُطْقِ والتعبيرِ عمّا يُريدُ وبالإرادةِ والاختيارِ الحرِّ، وبالاستطاعةِ والقدرةِ، فضْلاً عَنِ السَمْعِ والبَصَرِ والحياةِ والإدراكِ و العِلْمِ الخ، أَيْ: أَنَّ هُنَاكَ تَشَابُهٌ عامٌّ بينَ صُورَةِ اللهِ في صِفاتِهِ والإنْسانِ، لِذا قالَ سبحانَهُ، أَنَهُ “خَلَقَ الإنسانَ عَلى صُورَتِهِ”، و بِتَعْبيرٍ آخَرَ أَنَّ اللهَ شاءَ أَنْ يخلُقَ مخلوقاً تَنْعَكِسُ وتَتَجَلَّى فيه وَمْضَةٌ مِنْ صِفاتِ تعالى، مِنَ العَقْلِ، والإرادَةِ، و الاخْتِيارِ، والحياةِ، والعِلْمِ، والمعرفةِ، والكلامِ، والقُدْرَةِ، والسَمْعِ والبصرِ). (105).
وبذلك نكون قد جلونا الحقيقة وأَمَطْنا اللثامَ عَنْ نَظْرَةِ السادَةِ الصُوفِيّينَ إلى الوُجودِ كَكُلٍّ عَلى أَنَّه ـ بما في لك المرأَةُ، مِرآةٌ لِتَجَلِّياتِ الذاتِ الإلهيَّةِ الكامِلَةِ بجميعِ أَسمائها وصفاتها وحضراتها، فهم إنّما ينظرونَ إلى الخلقِ بَعَيْنِ الحَقِّ، ولذلكَ كانَ البَوْنُ شاسِعاً بَيْنَهم وبينَ سِواهم مِنَ المحجوبينَ عَنِ الحقِّ بالخَلْقِ، فهم في خلافٍ دائمٍ مُسْتَحْكِمٍ لا نهايةَ لَهُ، إلى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْها، ويَفصلُ بينَهم، وسَيَعْلَمُ هؤلاءِ المحجوبونَ الحقيقةَ عندَما يَزولُ عَنْهُمُ الحِجابُ في أَوَّلِ بَرْزَخٍ مِنْ بَرازِخِ الآخِرَةِ، عندَ حُضورِ مَلَكِ المَوْتِ، حيثُ تُرْفَعُ الحُجُبُ، يَقول ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {لقدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فبَصَرُكَ اليومَ حديد}. (106). وعندها تَنْتَهي العداواتُ والخُصوماتُ إنَّما لا يَنْفَعُ التَراجُعُ عَنِ المواقِفِ هناك، ولاتَ حِينَ مَنْدَمٍ.

مصادر الباب الثاني

1 ـ سورة الحديد الآية: /3/.
2 ـ إيقاظُ الهِمَم في شَرْحِ الحِكَمِ لابْنِ عَجيبَةَ ص /49/.
3 ـ الإنسان الكامل ج1/ط3 ص: /3 ـ 4/.
4 ـ نسيم السَحَر: ص, 37
5 ـ مختصر صحيح الإمام البُخاري للألباني (4/ 341)
6 ـ المستدرك على الصحيحين للحاكم مع تعليقات الذهبي في التلخيص (3/ 83).
7 ـ شرح القصيدة العينية: ص، 48 .
8 ـ سورة البقرة، الآية: /115/.
9 ـ سُورةُ الانْفِطارِ الآيتان: /7 و 8/.
10 ـ الآيتان: /1 و 2/ مِنْ سُورَةِ الدهر.
11 ـ الآية /20/ من سورة الإسراء .
12 ـ الآية /16/ من سورة /ق/.
13 ـ الآية /17 ـ 20/ من سورة /ق/.
14 ـ أخرجه الشيخان عن سيدنا عمرَ ابن الخطاب ـ رضي الله عنه.
15 ـ سورة الصافّات الآية: /96/.
16 ـ سورة النساء الآية: /48/.
17 ـ أخرجه البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه.
18 ـ سورةُ الذاريات الآية: /56/ .
19 ـ المجالَسَةُ وجَواهِرُ العِلْمِ (2/ 93) و جامع بيان العلم وفضله: (2/ 98)
20 ـ جامع بيان العلم وفضله: (2/ 98)
21 ـ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لمحمد علي البكري الصديقي: (1/ 17)
22 ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري: (13/ 435).
23 ـ تفسير البحر المديد، ابن عجيبة: (6/ 156
24 ـ الدر المصون في علم الكتاب المكنون (ص: 5933)
25 ـ اللباب في علوم الكتاب (14/ 405)
26 ـ النكت والعيون (4/ 176)
27 ـ تفسير أبي السعود (2/ 14)
28 ـ تفسير الألوسي (10/ 417)
29 ـ تفسير البحر المحيط (2/ 137)
30 ـ تفسير السعدي (ص: 813)
31 ـ تفسير السلمي (2/ 278)
32 ـ تفسير حقي (1/ 134)
33 ـ تفسير مقاتل بن سليمان (3/ 280)
34 ـ تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري: (1/269)
35 ـ فتح القدير للشوكاني: (5/ 130)
36 ـ تفسير الخازن – م (6/ 247)
37 ـ التفسير الوسيط لمجمع البحوث بالأزهر: (9/1110).
38 كتاب الكليات للكَفَوِي: (ص: 824)
39 ـ الدُر ُّ المَنْثورُ (ج 2/ص410).
40 ـ المصدر السابق ص/410/
41 ـ البحر المديد: ص/265 /
42 ـ نزهة الفضلاء1/160/
43 ـ سورة الإسراء، الآية: /44 /
44 ـ سورة الروم الآية/30/ .
45 ـ سورة آل عمران، الآية / 191/.
46 ـ سورة الغاشية، الآيات: /17، 18، 19/.
47 ـ تفسير روح البيان ، ص /146/. وتفسير روح المعاني.
48 ـ الإنسان الكامل: ج1 ص /40/.
49 ـ كتاب وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي للأستاذ محمّـد الراشد ص /30/
50 ـ سورة ق: الآية: /16/.
51 ـ نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي ص/25/.
52 ـ كتابُ حَلِّ الرُموزِ للعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلام، ص: /50/.
53 ـ نظريَّةُ الحبّ والاتحاد في التصوف الإسلامي، ص: /25/
54 ـ المصدر السابق .
55 ـ كتابُ حَلِّ الرُموزِ للعِزِّ بْنِ عبدِ السَّلام، ص: /51/.
56 ـ إِيقاظُ الهِمَمِ في شَرْحِ الحِكَمِ، ص: /5/.
57 ـ سورة الجاثية، الآية: /13/.
58 ـ الإنسان الكامل: ج1 ص: /45 ـ 46/.
59 ـ الإنسان الكامل: ج 1، ص: /5/ .
60 ـ نفس المصدر ج1ـ ص: /90/ .
61 ـ ديوان ابن الفارض .
62 ـ طريق الوصول إلى الولاية للإمام الشعراني ص: /481/.
63 ـ المصدر السابق ص: /483 ـ 484/ .
64 ـ المصدر السابق ص: /484/.
65 ـ المصدر السابق ص: /491 ـ 492/.
66 ـ ديوان تأملات للمُؤلّف .
67 ـ التكوين والتجلي، لأحمد حيدر، ص: /29/ .
68 ـ المُنقذ مِنَ الضلال للإمام الغزالي.
69 ـ رواه الإمام أحمد في الزهد، (ص: 81) والدارمي وذكرهُ السُيُوطِيُّ في الدُرَرِ المُنْتَثَرَةِ.
70 ـ الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي (ص: 206)
71 ـ رُؤيَةٌ على العَيْنِيَّةِ أحمد الهاشمي، ص: /44/ .
72 ـ المدرسة الشاذلية الحديثة عبد الحليم محمود، ص: /95/.
73 ـ الفتوحات المكيّة ج2 ص: /325/.
74 ـ الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم (3/ 45)
75 ـ ديوان تَأَمُّلات للمُؤَلِف .
76 ـ ديوان عبير الوحي للمؤلف
77 ـ إيقاظُ الهِممِ في شَرْحِ الحِكَمِ ج، 1 ص: /35/.
78 ـ تفسير البحر المديد ج7 ص: /468/.
79 ـ ديوانُ ابْنُ الفارِضِ. ص: 29 البيت رقم: 99.
80 ـ ديوانُ الحقائقِ ومجموعِ الرَقائق عبد الغني النابلسي، ص: /21 ـ 22/.
81 ـ إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 27)
82 ـ ديوانُ ابْنِ الفارِضِ: ص80 .
83 ـ التصوف في الإسلام لعمر فروخ، (ص:115).
84 ـ الفتوحات الإلهيَّة، (ص:45)
85 ـ روائعُ الغَزَلِ لإميل ناصيف، ص: /41/ .
86 ـ إيقاظ الهمم شرح متن الحكم (ص: 93)
87 ـ نهجُ البلاغَةِ مؤسسة الأَعلمي: ج1 ص: /206/ .
88 ـ المصدرُ السابقُ ص: /37/.
89 ـ ديوان الشيخ أمين الجندي ص: /208/ .
90 ـ عنْ حمّاد بْنِ سَلَمَةَ بِسَنَدِهِ إلى ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفوعاً، ورواه أَحمَدُ (5/243)، والتِرْمِذِيُ: (3235)، وصحَّحهُ مرَّةً وحسَّنه أُخرى، ورواهُ ابْنُ أبي عاصِمٍ في السُّنة: (ص 465 ـ 471)، والطَبرانيُّ والدارقُطْنِيُّ وغيرُهم؛ عَنْ جمعٍ مِنَ الصَّحابةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهم، وصَحَّحه البُخاريُّ، وأبو زَرْعَة، وصحَّحَهُ مِنَ المتأخِّرين: أحمد شاكر، والألباني، ولَهُ عدةُ متابعات وشَواهدَ، وفيه كلامٌ كثير.
91 ـ أخرجه البُخاريُّ ومُسْلمٌ، الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم (3/ 7)، وأَحمدُ ابن حنبل في مسنده ج2 ص: 315 ح: 8163، والتِرْمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، وابْنُ ماجةَ، وأَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ ج2 ص5، عَنْ أَبي هُرَيِرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه. وزاد الحاكم في مُستدركه: (فليظنَّ بي ما شاء) وقال: هذا حديثٌ صَحيحُ الإسنادِ ولم يخرجاهُ، وعَلَّقَ الذَهَبيُّ في التَلخيصِ فقال: صحيح وعلى شرط مسلم.
92 ـ وحدة الوجود في الفكر العربي ص: /226/ .
93 ـ سورة الأنعام، الآية: 103 .
94 ـ ((إذا ضرب أحدُكم فَلْيَجْتَنِبِ الوجهَ ولا يقلْ قبَّح اللهُ وجهَك ووجهَ من أشبه وجهَك فإنَّ اللهَ خلق آدمَ على صورتِهِ)). مسلم: (4/2017، رقم 2612)، وأحمد: (2/251، رقم 7414)، وعبد الرزاق: (9/445، رقم: 17952)، والدارقطني في الصفات: (1/35، رقم 44)، والطبرانيُّ في السنة، وابْنُ عساكر: (52/315)، عنْ أبي هريرة ـ رضي الله عنه، قال المناويُّ: وإسنادُ أحمدَ حَسَنٌ). وللحديث أطراف أخرى منها: ((إذا قاتل أحدُكم فليجتنب الوجه”، “خلق الله آدم على صورته)). و ((إذا ضربتُم فاتقوا الوجهَ فإنَّ اللهَ خلق وجهَ آدمَ على صورتِهِ (عبد الرزاق عن قتادة مرسلاً: (9/444، رقم: 17950). وللحديثِ أَطْرافٌ أُخرى منها: ((إذا ضرب أحدُكم فَلْيَجْتَنِبِ الوجهَ)). جامع الأحاديث: (3/ 332).
95 ـ سورة الذاريات، الآية: 56 .
96 ـ التفسير الوسيط، مجمع البحوث بالأزهر الشريف: (9/ 1110) وهذا إشارة إلى ما صححوه عن رسول الله فيما رواه عن ربه: “كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أَن أُعرف فخلقت الخلق لأُعرف”.
97 ـ كشفُ الظُنون: (ج2 ص: 1040) والألوسيُّ وغيرُهما.
وقال المُلاَ على القاري في كشف الخفاء: (2/132): لا يعرف لَهُ سَنَدٌ صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ، ولكنَّ معناهُ صَحيحٌ، مُسْتَفادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعالى: {وما خلقتُ الجِنَّ والاِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدون) أي: لِيَعْرِفوني، كما فَسَّرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
98 ـ الغيث الهامع شرح جمع الجوامع لولي الدين أبي زرعة العراقي: (ص: 730).
99 ـ سورة الأعراف، الآية: 143.
100 ـ تفسير روح البيان لإسماعيل حقي: (6/ 234).
101 ـ سورة الغاشية، الآيات: 17 ـ 20.
102 ـ سورةُ آلِ عُمران الآية: 191.
103 ـ مِنْ مقدِمة الأَعْمالِ الكامِلَةِ للمُؤَلِّف.
104 ـ سِفْرُ التَكوين: (1/26 ـ 27(
105 ـ أُلُوهيَّةِ المَسيح: (ج1/ ص: 123)
106 ـ سورةُ (ق) الآية: /22/ .

المرأةُ في الغزل الصوفي (6)


وفي هذا المعنى يقول أحمد حيدر: (إنَّ الصِفاتِ الإبداعيَّةَ هي مَظاهرُ أفعالِ اللهِ، ولا قِوامَ لها إلا بموجدِها). (66).
وأقوالُ السادةِ الصوفيَّةِ في ذلك أكثر من أن تُحصى، شعراً كانت أو نثراً، إذ إنَّ مهمّةَ التَصَوُفِ الأُولى هي تدريبُ النفسِ على رؤية الحقِّ ـ تبارك وتعالى، واحداً في وُجودِه، وإزالةُ جميعِ الحُجُبِ عَنْ عينِ البصيرةِ لِشُهودِ وَحدانِيَّتِهِ ـ جَلَّ في عُلاه. يقولُ الإمامُ الغزاليُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، بعدَ أَنْ سَرَدَ حكايةَ هَجْرِهِ لِعَمَلِهِ مديراً للمَدْرَسَةِ النِظامِيَّةِ بِبَغدادَ، والتَخَفّي والاعتكافِ مُدَّةَ عامينِ في مِئْذَنَةِ العَروسِ في الجامعِ الأُمَوِيِّ بِدِمَشْقَ، وكان يَدعو بهذا الدعاءِ: (اللَّهُمَّ عَرِّفْني إِلَيْكَ، ودَلَّني على مَنْ يدُلُّني عَلَيْكَ) يَقولُ: (فلَمَّا عَلِمَ اللهُ ـ تَبارَكَ وتَعالى، صِدْقي دَلَّني على شيخي يوسف النَسَّاجِ، فما زَالَ يِصْقُلُ مِرآةَ قَلبي حتَّى رَأَيْتُ اللهَ تعالى في المَنامِ، فقالَ لي: {يا أَبَا حامِدٍ دَعْ شَواغِلَكَ واصْحَبْ قوماً جَعَلْتُهم في أَرْضِي محَلُّ نَظَرِي}، فقُلْتُ: بِعِزّتك إلاّ أَذَقْتَني بَرْدَ حُسْنِ الظَنِّ بهم، فقال: {قدْ فَعَلتُ}. فلَمّا اسْتَيْقَظْتُ قَصَصْتُ رُؤْيايَ هذِهِ على شَيْخي يُوسُف النَسّاجِ، فقال لي: يا أَبَا حامِدٍ هذِهِ ألواحُنا في البدايَةِ ..). (67). والقِصَّةُ بِكامِلِ تَفاصيلِها مَوْجُودَةٌ في كِتابِهِ المُسَمَّى (المُنقذ مِنَ الضَلالِ). وهذِهِ هِيَ ثمرةُ التَصَوُّفِ وغايَتُهُ، وهذِهِ هِيَ وظيفةُ الشَيْخِ: أَنْ يَسيرَ بِكَ حَتّى يَزُجَّ بِكَ في أَنوارِ الحَضْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، ثمَّ يَقولُ لك: (ها أَنْتَ ورَبُّكَ) فإذا أَصْبَحْتَ تَرى اللهَ مُتَجَلِّياً في كُلِّ شَيْءٍ حِسّاً وشُهوداً فقدْ وَصَلْتَ وكَمُلَ إِيمانُكَ.
يقولً أَبو يَزيدٍ البَسْطامِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لو أَنَّ العَرْشَ وما حَواهُ مِلْيونَ مَرَّةٍ في زَاويةٍ مِنْ زَوايا قَلْبِ العارِفِ، ما أَحَسَّ بِهِ). (68) وكيفَ يُحِسُّ بمخلوقٍ قَلْبٌ وَسِعَ الخالِقَ العَظيمِ؟! يَقولُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى في الحديثِ القُدْسِيِّ: (أَنَّ اللهَ فَتَحَ السَمَواتِ لِحَزْقِيلَ حَتى نَظَرَ إلى العَرْشِ فقالَ حَزْقِيلُ: سُبْحانَكَ ما أعْظَمَكَ يا رَبُّ! فقالَ اللهُ: إنَّ السَمواتِ والأرْضَ لم تُطِقْ أنْ تحملني وضِقْنَ مَنْ أَنْ يَسَعْنَني ووَسِعَني قَلبُ المُؤْمِنِ الوادِعِ الليِّنِ).). (69). ووسْعُهُ للرُبوبِيَّةِ إنَّما يكونُ بالعِلْم والمعرفة الخاصة. قال ابْنُ حَجَر الهيثمِيُّ في الفَتَاوَى الحَديثِيَّةِ: (وذِكْرُ جماعةٍ لَهُ مِنَ الصُوفِيَّةِ لا يُريدونَ حَقيقَةَ ظاهِرِهِ مِنَ الاتِّحادِ والحُلولِ لأنَّ كُلاًّ منهُما كُفْرٌ، وصالِحُو الصُوفِيَّةِ أعْرَفُ النَّاسِ باللهِ، وما يَجِبُ لَهُ وما يَسْتَحيلُ عَلَيْهِ، وإنَّما يُريدونَ بِذلِكَ أنَّ قَلْبَ المُؤْمِنِ يَسَعُ الإيمانَ باللهِ ومحَبَّتَهُ ومَعْرِفَتَهُ. (70)
يَقولُ الجُنَيْدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إنَّ المُحْدَثَ إذا قُرنَ بالقديمِ لم يبق له أَثَرٌ وقلبٌ يَسَعُ القديمَ كيف يُحِسُّ بالمُحْدَثِ موجوداً؟!) (71) ويقول أبو الحسن الشاذلي ـ رَضِيَ اللهُ عنه: (إنّا لَنَنْظُرُ إلى اللهِ بِبَصائرِ الإيمان، فأَغْنانا ذَلِكَ عَنِ الدَليلِ والبُرْهان، وإنَّا لا نَرَى أَحَداً مِنَ الخَلْقِ، هلَ في الوُجودِ أَحَدٌ سِوى المَلِكِ الحَقّ؟) (72).
وثمّةَ مقامٌ يُسَمِّيهِ العارِفونَ مَقامَ جمعِ الجَمعِ، يَفْنى فيهِ العَبْدُ بحَضْرَةِ ربِّهِ فناءً كُلِّيّاً، فإذا نظرَ فإلى ربّهِ, وإذا سمعَ فإنما يَسْمَعُ ربَّهُ وإذا تحركَ فبهِ وهَكَذا .
يَقولُ الشيخُ الأكبرُ ـ قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ: (واعلمْ أنَّ كلَّ حُبٍّ لا يحكمُ على صاحبِهِ بحيثُ أنْ يُصِمَّهُ عن كلِّ مسموعٍ، سِوى ما يَسمَعُ من كلامِ محبوبِهِ، ويُعْميهِ عَنْ كلِّ مَنْظورٍ، سِوى وَجْهِ محبوبِهِ، ويُخْرِسُهُ عن كلِّ كلامٍ، إلاَّ عَنْ ذِكْرِ محبوبِهِ، وذِكْرِ مَنْ يُحِبُّ محبوبُهُ، ويختمُ على قلبِهِ فلا يَدخُلُ فيهِ سِوى حُبِّ محبوبِهِ، وَيرْمي قُفْلَهُ على خِزانَةِ خَيالِهِ فلا يَتَخَيَّلُ سِوَى صُورَةِ محبوبِهِ، إمّا عنْ رؤْيةٍ تَقَدَّمتْهُ، وإمّا عنْ وَصْفٍ يُنْشئُ مِنْهُ الخيالُ صورةً، فيَكونُ كما قيلَ:
خيالُكَ في عيني وذكرُك في فمي ……… ومَثْواكَ في قلبي فأَيْنَ تغيبُ؟
فبِهِ يَسْمَعُ ولهُ يَسْمَعُ، وبِهِ يُبْصِرُ ولَهُ يُبْصِرُ، وبِهِ يَتَكلَّمُ ولَهُ يَتَكَلَّمُ، ويتابعُ الشيخُ: ولقد بَلَغَ بي قوَّةُ الخيالِ أنْ كان حُبّي يُجَسِّدُ لي محبوبي مِنْ خارجٍ لِعَيْني كما كانَ يَتَجَسَّدُ جِبْريلُ لِرَسُولِ الله ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فلا أقدِرُ أنْظُرَ إليه، ويخاطبني وأُصغي إليهِ وأفهمُ عنهُ، وقد تَرَكني أَيّاماً لا أُسيغُ طعاماً، كلَّما قُدِّمتْ لي المائدةُ يَقِفُ على حَرْفِها ويَنْظُرُ إليَّ ويقولُ لي بلسانٍ أسمعُهُ بأُذنيَّ: تأكُلُ وأَنْتَ تُشاهدُني؟! فأَمْتَنِعُ مِنَ الطعامِ ولا أَجِدُ جُوعاً وأَمْتَلِئُ مِنْهُ، وقد سمِنتُ وعَبَلْتُ مِنْ نَظَري إليه، فقامَ لي مقامَ الغذاءِ وكانَ أَصْحابي، وأَهلُ بيتي يَتَعَجَّبون مِنْ سِمَني مَعَ عَدَمِ الغِذاءِ، لأنّي كُنْتُ أَبقى الأَيّامَ الكثيرةَ لا أَذوقُ ذَواقاً، ولا أجِدُ جُوعاً ولا عطَشاً، لكنَّه كان لا يَبْرَحُ نصْبَ عَيني في قيامي وقعودي وحركتي وسُكوني .. ثم يضيفُ: واعْلَمْ أَنَّه لا يَسْتَغرقُ الحُبُّ المُحِبَّ كلَّهُ إلاّ إذا كان محبوبَهُ الحقُّ تعالى). (73)
وحالُ الشيخِ هذا يُذَكِّرُنا بما أَخْرَجَ الشَيْخانِ وغيرُهما مِنْ حَديثِ أُمِّ المؤمنين السَيِّدَةِ عَائِشَةَ، وأَبي هُرَيْرَةَ، وأَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ وغيرهم ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ، نهى عن الوصالِ في الصومِ فلمّا قيل له: ولكنَّكَ تُواصلُ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: ((إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي)). (74) ولا نشكَّ بأَنَهُ كان للشيخِ ـ رضي اللهُ عنه حظٌ من إرث سيِّدنا رسولِ اللهِ، فإنَّ العلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ كما قال ـ عليه الصلاة والسلامُ، وحظُّ كلٍّ بقدر اتِّباعهِ.
وقد سمعتُ مِنْ شَيْخِنا، المرشدِ الكاملِ، العارِفِ باللهِ، الشيخِ عَبْدِ الرحمنِ الشاغورِيِّ ـ رحمَهُ اللهُ تَعالى ورَضِيَ عَنْهُ وعَنْ أَشْياخِهِ: أَنَّ هَذِهِ الحالَ مِنَ السُكْرِ، أَوْ البُهْتِ، كما يسمّونها دامتْ عَلى الشَيْخِ الأَكْبَرِ (قُدِّسَ سِرُّهُ) ذاتَ مرَّةٍ ستَّةَ أَشْهُرٍ، ولمّا أَفاقَ مِنْ سُكْرِهِ هذا سَأَلَ مَنْ حولَهُ إِنْ كانوا لاحَظوا منه تَغَيُّراً في سُلُوكِهِ خِلالَ هَذِهِ الفَتْرَةَ، فقالوا: لا شَيْءَ سِوَى أَنَّنا كنَّا نَنظُرُ في عَيْنَيْكَ فنراهما جامِدَتَيْنِ لا تَتَحَرَّكانِ، فقد كانَ يَقومُ بِأَعْمالِهِ وواجِباتِه المُعْتادَةِ عَلى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فقال شَيْخُنا يومها: (مَنْ حفظَ اللهَ حفظَه) وذَلِكَ لأَنَّهُ كانَ قدْ حَفِظَ اللهَ في صَحْوِهِ فحفِظَهُ في سُكْرِهِ. وإلى هذا الرُكْنِ الرَكينِ اسْتَنَدْتُ حين قُلْتُ :
قلبي لِعِزِّكَ يخشَعُ ………………………… ولكَ الجَوارحُ تَخْضَعُ
يا مَن وَعَتْهُ مَسامِعي ……………………… في كلِّ صَوْتٍ يُسْمَعُ
يا مَنْ رأَتْهُ بَصيرتي ………………………….. في كلِّ نُورٍ يَسْطعُ
في الشمْسِ إمّا أَشرَقتْ ……………………….. والبدْرِ إمَّا يَطْلعُ
في كلِّ وَجْهٍ مُشْرقٍ …………………………. نَضِرٍ تَجَلّى المُبْدِعُ
في الزَهرِ يَبْسِم للنَدى ………………………….. وأَريجُهُ يَتَضوَّعُ
في كلِّ غُصْنٍ مُزْهِرٍ ………………………… فوقَ الرُبا يَتَرَعْرعُ
في الطَيرِ يَغْدو جائعاً …………………………. ويَروحُ إمّا يَشْبَعُ
فَتَراهُ يَشْدو داعياً ………………………… فوق الغُصونِ يُرَجِّعُ
كلٌّ دَرى تَسْبيحَهُ ……………………………… ولِربِّهِ يَتَضَرَّعُ
(75)
وقلتُ أيضاً في ذاتِ المَشْهَدِ العلْويِّ :
في كلِّ نَفْحَةِ عِطْرِ ………………………….. في كلِّ نَسْمَةِ فَجْرِ
في كلِّ وَجْنَةِ زَهْرٍ …………………………… في كلِّ بَسمَةِ بَدْرِ
في كلِّ لحنٍ أَثيرٍ ………………………………. وكلِّ وجْهٍ أَغَرِّ
منْكَ الجَمَالُ تَجَلّى ……………………… ومهدُ حسْنِكَ صَدْري


في الطيرِ إنْ راح يَشدو …………………… في الغصنِ يَحْنو عَلَيْهِ
في الوَرْدِ إنْ ماس يزهو …………………….. في القلبِ يَهفو إليْهِ
في النهْرِ والماءُ يجري …………………………. والخيرُ في راحَتيْهِ
منكَ الجَمَالُ تَجَلّى ……………………… ومَهْدُ حُسْنِكَ صَدْري
(76)
قال ابنُ عَجيبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهِ: جمْعُ الجَمْعِ وهوَ غايةُ المَعْرِفَةِ، فأَوَّلُ المَعْرِفَةِ دَلالَةُ الصنْعَةِ على الصانِعِ، ووَسَطُها دَلالةُ الصانِعِ عَلَى الصنْعَةِ، وغايَتُها تَلاشي كُلِّ ما دُونَ الحَقِّ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ}. (77) وقالَ في تفسيره المسمَّى: البَحْرِ المديدِ: وللعارفين في هذا مقامان: مَقامُ عَيْنِ الجَمْعِ، ومَقامُ إِفْرادِ القديمِ مِنَ الحُدوثِ. فَمِنْ حَيْثُ الوَحْدَةُ والقِدَمُ، تَتَصاغَرُ الأَكْوانُ في عِزَّةِ الرَّحمنِ، وسَطْواتِ عَظَمَتِهِ، حتى لا يَبْقى أَثَرُها. ثمَّ قال: ومِنْ حَيْثُ الجَمْعُ باشَرَ نُورُ الصَفَةِ نُورَ العَقْلِ، ونُورُ الصِفَةِ قائمٌ بالذاتِ، فيَتَجَلَّى بنورِهِ لِفِعْلِهِ مِنْ ذاتِهِ وصِفاتِهِ، ثمَّ يَتَجَلَّى مِنَ الفِعْلِ، فَتَرَى جميعَ الوُجُوهِ مِرْآةَ وُجودِهِ، وهوَ ظاهِرٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ للعُمومِ بالفِعْلِ، وللخُصوصِ بالاسْمِ والنَعْتِ، ولخصوصِ الخصوصِ بالصِفَةِ، وللقائمين بمشاهدَةِ ذاتِهِ بالذاتِ، فهو تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ البَيْنُونَةِ، والحُلُولِ، والافْتِراقِ، والاجْتِماعِ، وإنَّما هوَ ذَوْقُ العِشْقِ، ولا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلاّ العاشِقونَ. وحاصِلُ كلامِهِ: أنّكَ إنْ نَظَرْتَ للوَحْدَةِ لمْ يَبْقَ مَنْ تَحْصُلُ مَعَهُ المَعيَّةُ؛ إذْ لا شَيْءَ مَعَهُ، وإنْ نَظَرْتَ مِنْ حَيْثُ الجَمْعِ والفَرْقِ أُثْبِتَ الفَرْقُ في عَيْنِ الجَمْعِ فتَحْصلُ المَعِيَّةُ مِنْهُ لَهُ جمْعاً، ومِنْهُ لأَثَرِهِ فَرْقاً، ولا فَرْقَ حَقيقَةً، فافْهَمْ، ولا يَفْهَمُ هَذا إلاَّ أَهْلُ العِشْقِ الكامَلِ، وَهُمْ أَهْلُ الفَنَاء). (78). كما قال ابنُ الفارض:
فلم تَهْوَني ما لم تَكُنْ فيََّ فانِياً ……….. ولم تَفْنَ ما لمْ تجْتَلِ فِيكَ صُورَتي
(79)

المرأة في الغزل الصوفي (1)


بسم اللهِ الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبِ أجمعين. وبعد.

ابتداءً من اليوم سأنشر إن شاء الله كتابي (المرأة في الغزلِ الصوفي) الكتاب الذي كان قد حصل على شهادة تقديرية من جامعة غازي عنتاب التركية نظراً لجدَّة الطرح وحداثة التحليل ولك بمعدل عشر صفحات في اليوم، وهو كتابٌ جديرٌ بالقراءة يحتاج كلُ إنسان أن يطلع عليه ليفهم الحياة، فأرجو المتابعة ممن كان مهتمّاً بهذا الموضوع. سائلاً المولى القدير أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علَّمنا إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على معلم الناس الخير وعلى آله وصحبه وسلم.

المرأة في الغزل الصوفي

للشاعر

عبد القادر الأسود

المقدمة:

بِسْمِ اللهِ الذي لا إلهَ سِواهُ، ولَهُ الحمْدُ حمْداً يُحِبُّه ويَرضاهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا محمَّداً رَسُولُ اللهِ وعَبْدُهُ وحَبيبُهُ وصَفِيُّهُ ومُصْطَفاهُ، وعَلى كُلِّ عَبْدٍ لَهُ مُنيبٌ وبِحُبِّهِ أَوَّاهُ. أَمَّا بَعْدُ.
لَطالمَا تَطَلَّعتُ إلى جَلاءِ حقيقةٍ مَنَّ اللهُ عَليَّ بِفَهْمِها عَنْ أَهْلِها الذينَ مَنَّ عَلَيَّ بِصُحْبَتِهم والانْتِظامِ في سِلْكِهم، وأَكْرَمَني بمَحَبَّتِهم وتَذَوُّقِ شَرابِهم، فعَرَفْتُ مُنْذُ عامِ /1964/ المُرَبيَ الكبيرَ الشيخَ عبدَ القادرِ عيسى ـ تَغَمَّدَهُ اللهُ بواسِعِ رَحمَتِهِ، وجَزاهُ عنّي خيرَ ما جازى شَيْخاً عَنْ مُريدِهِ، وكانَ الشيخُ عبدُ القادِرِ خَليفةَ الوَليِّ العارِفِ باللهِ السَيِّدِ محمَدٍ الهاشمِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في حَلَبَ، وكُنْتُ حِينَها في السادِسَةَ عَشْرةَ مِنْ عُمري، فتَرَبَّيْتُ على يديْه، ورَأَيْتُ الكَثيرَ مِنْ كراماتِهِ، على عادَةِ أَهْلِ اللهِ في تَثْبيتِ قَلْبِ المُريدِ لِيَثِقَ بهمْ، لأنَّ الثِقَةَ بالطَبيبِ لازِمَةٌ للانْتِفاعِ بِدوائِه .
ثمَّ أَنهيتُ دراسَتي، ودُعيتُ لأداءِ خِدمَةِ العَلَمِ، وشاءَتِ العِنايةُ
الإلهيّةُ أَنْ تَكونَ خِدمَتي في دِمَشْقَ، وأَنْ أَسْكُنَ في الَحيِّ الذي كانَ يَسْكُنُهُ السَيِّدُ الهاشميُّ (شَيْخُ شَيْخي) ـ رَحمَةُ اللهِ عَلَيْهِما، وكانَ يَسْكُنُ ذاكَ الحَيِّ (المهاجِرين) كَوْكَبَةٌ مِنْ محبيِّ الشَيْخِ ومَريديهِ الذين كانوا قدْ آثَروا جِوارَهُ، فانْتَفَعْتُ بهمْ، ولاسيَّما خَليفَتُهُ في دِمَشْقَ العارَفُ باللهِ المرشدُ الكَبيرُ المرحومُ الشيخُ عبدُ الرَحمنِ الشاغوريُ، الذي أَفَدْتُ الكَثيرَ مِنْ عُلومِهِ ومَعارِفِهِ، وعَلى يَدَيْهِ دَخَلْتُ الخُلْوَةَ، كُلُّ ذَلِكَ كانَ بَتَرْتيبِ الحَكيمِ العَليمِ وتَدْبيرِهِ، ولم يَكُنْ لي فِيهِ أَيَّةُ إِرادَةٍ أَوْ كَسْبٍ.
وكانَ الشَيْخُ عبدُ الرحمنِ شاعِراً ومُنْشِداً، إِضافَةً إلى عُلومِهِ الجَمَّةِ التي أَخَذَها عَنْ مَشايِخِهِ، وبخاصَّةٍ السَيِّدُ الهاشمِيُّ، وهذا ما جَعَلَني أُحِبُّهُ أَكْثَرَ، وجَعَلَني مِنْهُ أَقْرَبَ، وأَحَبَّني هو أَيْضاً لأنني أُشارِكُهُ مواهِبَهُ فَأََغْدَقَ عَلَيَّ ما قَسَمَهُ اللهُ تَعالى لي مِنْ عُلومِ القَوْمِ وأَذْواقِهم وأَحْوالهم .
ونَظَراً لِشَغَفي بالشِعْرِ والإنْشادِ، فقدْ كُنْتُ أَقْرَأَ أَشعارَ السادَةِ الصُوفِيَّةِ وغَزَلَهم، والشُروحَ لها والدِراساتِ عَلَيْها، فلا أَجِدُ فيها ما يَتَّفِقُ مَعَ ما أَخَذْتُهُ عِلْماً وذَوْقاً عَنْ العالِمِ العارِفِ الشاعِرِ الصُوفيِّ الشيخِ عَبْدِ الرَحمنِ ـ تَغَمَّدَهُ اللهُ بِرَحمتِهِ، وأَتَحَدَّثُ في ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ إخْواني وأَصْحابي.
ثمَّ عَزَمْتُ عَلى أَنْ أُحَرِّرَ هذا الفَهْمَ في رِسالَةٍ وَجيزَةٍ تَعْميماً للفائِدَةِ، وحَتَّى لا أَدخُلُ فِيمَنْ كَتَمَ عِلْماً عِنْدَهُ، ولمَّا شَرَعْتُ في ذَلِكَ وَجَدْتُ مِنَ الخَيْرِ أَنْ أَبْدَأَ بالحَديثِ عَنِ القَوْمِ وطَريقِهم في محَبَّةِ اللهِ، ثمَّ أتحدَّثُ عَنْ نَظَرِهم إلى خَلْقِ اللهِ، ولمَّا أَخَذْتُ أُقَلِّبُ صَفَحاتِ المَراجِعِ والمَصَادِرِ، وَقَفْتُ على الكَثيرِ ممَّا هوَ مُشَوِّقٌ ومُفيدٌ مِنْ قَصَصِ الُمُحِبِّينَ والعُشَّاقِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَنقُلَ بَعْضَهُ إلى إِخْوَتي القُرَّاءِ وأَخَواتي، وما كانَ نَقْلي لهذِهِ القِصَصِ نَقْلاً حَرْفِيّاً، إِنَّما حَذَفْتُ مِنْها ما لا يَتَّفِقُ والغايَةِ المُتَوَخَّاةِ، وهَذَّبْتُ، وصَحَّحْتُ ما فِيها مِنْ أَخْطاءِ نحْوِيَّةٍ أَوْ إِمْلائيَّةٍ أَوْ لُغَويَّةٍ ما اسْتَطَعْتُ، وأَشَرْتُ إلى مَسائلَ في النَّحْوِ واللُّغَةِ ما قَدَّرْتُ نَفْعَهُ، لاسِيَّما قِصَّةُ عِشْقِ السيِّدَةِ زُلَيْخا لِسَيِّدِنا يُوسُفَ ـ عَلَيهِما السِّلامُ، ممّا اسْتَفَدْتُهُ مِنَ المراجِعِ التي أَشَرْتُ إِليْها.
ثمَّ بَدا لي أَنْ أُضِيفَ باباً أُضَمِّنُهُ مختاراتٍ شِعْريَّةٍ لِبَعْضٍ مِنْ كِبارِ رِجالِ التَصَوُّفِ مَعَ تَرْجمةٍ مُخْتَصَرَةٍ لَكُلٍّّ مِنْهُم تَعريفاً بِهِ وبِمَكانَتِهِ العِلْمِيَّةِ والأَدَبِيَّةِ، فَأَصْبَحَ الكِتابُ مُقَسَّماً عَلى سِتَّةِ أَبْوابٍ: بابٌ للتَعْريفِ بالتَصَوُّفِ، وبابٌ للاطِّلاعِ عَلى نَظْرَةِ الصُوفِيّينَ إلى الوُجُودِ، كُلِّ الوُجُودِ، وبابٌ للتَعَرُّفِ على نَظْرَةِ الصُوفِيّينَ إلى المَرْأَةِ كَواحِدٍ مِنْ مُكَوِّناتِ هذا الوُجودِ، وكيفَ نَظَرَ إِلَيْها الشَرْعُ الإسْلاميُّ، وما هيَ أَحْكامُ مُعامَلَتِها وعِشْقِها مِنْ قِبَلِ العامَّةِ ومِنْ قِبَلِ رِجالِ التَصَوُّفِ، وبابٌ لِباقَةٍ مِنَ الغَزَلِ الصُوفيِّ. وبِذَلِكَ أَصْبَحَ الكِتابُ ـ كَما أَراهُ، ماتِعاً مُفيداً وضَّحَ للنّاسِ الكَثيرَ ممّا جَهِلَهُ مِنْهُمُ الكَثيرُ .
وقد بَدَأَتْ رِحْلَةُ هذا الكتابِ في رَبيعِ عامِ /2007/م عِنْدَما طَلَبَتْ مِنِّي جمعيَّةُ العادِيَّاتِ بإدْلِبَ محاضَرَةً، فَأَعْطَيْتُ هَذا العُنَوانَ (المرأةُ في الغَزَلِ الصُوفيِّ)، وأَعْدَدْتُ فيهِ بَحْثاً مُوجَزاً يَصْلُحُ للمُحاضَرَةِ، لَكِنَّ وعْكَةً صِحِيَّةً أَلَمَّتْ بي حِينَها، مَنَعَتْني من إلقائها فاعْتَذَرْتُ .
ثمَّ دُعِيتُ بُعَيْدَ ذَلِكَ إلى مَدينَةِ أَنْطاكِيَّةَ في إطار التعاون الثقافي والعلاقاتِ التي كُنْتُ بنيتُها مع الكُتَّابِ الأَتْراكِ وقْتَئِذٍ حيثُ كنتُ رَئيساً لِفَرْعِ اتِّحادِ الكُتَّابِ العَرَبِ بإدْلِبَ، فدُعيتُ للمُشارَكَةِ في مِهْرَجانٍ أَدَبيٍّ هناك، وكانت مشاركتي بهذه المحاضَرَةِ التي لَفَتَتْ نَظَرَ الشاعِرَةِ الدُكْتورةِ السَيِّدةِ: (بهيَّة كوسال)، عَميدِ كِلِّيَّةِ الآدابِ في جامِعَةِ غازي عِنْتابِ التركيَةِ، لما فيها من نقدٍ حديثٍ للفِكْرِ الصُوفيُّ، لم أسبقْ إليهِ حيث اعتبرت ذلك فتحاً جديداً في دراسةِ الغزلِ الصوفيِّ فدعتني لأكونَ ضيفاً على جامعتها حيثُ جرى حوارٌ ونقاشٌ لكتابي هذا ومنحتُ بعدَ لك شهادةً تقديريةً من جامعة غازي عنتاب وهكذا ظَهَرَ هذا الكِتابُ بهذه الحُلّةِ القَشِيبَةِ. وأَظُنُّ أَنَّ مَنْ يَتَصَفَّحُهُ سَوفَ يُحِبُّهُ ويتعلَّقُ به ولَنْ يَسْتَغْنيَ عَنْهُ أَبَداً.
راجياً جزيلَ ثوابِهِ سُبْحانَه، ودعوةً مخلصةً مِنْ أَخٍ كَريمٍ، بظَهْرِ الغيبِ، أَوْ أُختٍ كريمةٍ، عَسى أَنْ يَكون لي ذَلِكَ خَيراً جارياً وعَمَلاً مُسْتَمِرَّ الأَجْرِ والمَثوبة بِمَنِّهِ تَعالى وكَرَمِهِ وجُودِهِ.
ولا أَدّعي في ذلك عِصْمَةً ولا كَمالاً، فإنَّ العِصْمَةَ للأَنْبياءِ ـ عَلِيْهِمُ السَّلامُ، وإنَّ الكَمَالَ للهِ وحدَهُ ـ جَلَّ وعَلا، فما مِنْ عَمَلٍ لمَخْلوقٍ يَخْلو مِنْ نَقْصٍ أَوْ عَيْبٍ البتَّة، حيثُ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ كَمالٌ عَنْ ناقِصٍ ولا نقصَ من كمالٍ, ورَحِمَ اللهُ المُتَنبي؛ حيثُ قالَ:
ولم أرَ في عيوب النَّاس عيباً ………….. كَنَقْصِ القادرينَ عَلى التَّمامِ
وصلَى اللهُ عَلى سَيِدِ الأَوَلينَ والآخِرينَ، وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ والتابِعينَ بإحْسانٍ إلى يَوْمِ الدينِ، وآخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين.

زحلة: 25/ ربيع الثاني/1430هـ ، 21/نيسان/2009م

عبد القادر الأسود

تمهيد:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي تجلّى على من أَحَبَّ من خلقِهِ بخاصَّة العبوديَّةِ له، وفتح لهم أبواب الفهمِ عنه والتلقّي منه، وسَلَكَ بهم سُبُلَ الهِداية إليه وأَكرمَهم بدِلالةِ خَلْقِه عليه، والنظرِ في عالمَيْ مَلكوتِه ومُلْكِه ليعرفوه في جميعِ تجليّاتِهِ بأسمائِه وصفاتِه، وقَدَّسَ قلوبَهم بأنوارِ ذاتِه.
والصلاةُ والسلامُ الأَتمّانِ الأَكْمَلان على أَكْمَلِ خَلقِهِ، وصَفْوَةِ أنبيائه ورُسُلِهِ، إمامِ المتّقين ووليِّ المؤمنين وحبيبِ رَبِّ العالمين، وعلى جميعِ إخوانِهِ النَبِيّينَ والمرسلين، وعلى آلِ كُلٍّ وصَحْبِ كُلٍّ أَجمعين، وبعد.
ثَمَّةَ طائفةٌ من المؤمنين، والعلماءِ العاملين، يُسَمَّوْنَ بالصُوفيّين اصْطَفَتْهُمُ الذاتُ العليّةُ إلى حضرةِ قدسِها، وأَسْبَلَتْ عليهم جَلابيبَ محبَّتِها وأَسْبَغَتْ عليهم رِداءَ مَعرِفتِها، وأَسَرَتْ قلوبَهم بجمالِها، ومَنَّتْهم بوِصالهِا, فتَعَلَّقتْ بها أفئدتُهم, وانْغمَستْ في بحارِ أنَوارِها أرواحُهم, وانْطَمَسَتْ في مجالي ظُهورِها ذَواتُهم، وماتتْ فيها نفوسُهم، وانْشَغَلتْ بدَقائق أَسرارِها أَفكارُهم، واشْتَعَلَتْ بالشوقِ إليها قلوبُهم، وسَكَنَتْ إليها جَوارِحُهم، وحارتْ في مَعْناها عُقولُهم. إنْ نَظَروا فإلَيْها، وإنْ سَكَتوا فبِها، وإنْ حَدَّثوا فعنْها، وقد تَرْجَمَتْ أحوالَهم أَلْسِنَتُهم وأَقلامُهم.
و نَظَر الناسُ في كلامِهم فقَصُرتْ عنْه أَفهامُهم، وعَجَزتْ عنَ بلوغ مرامَيهَ مَداركُهم لِبُعْدِهم عنهم، فكانَ الناسُ فيهم على طَريقَين: تَأَوَّلَ لهمُ الصالحون، واعْتَرَضَ عليهم المُرْتابون. وكنتُ فيمن أَكْرمَهُ اللهُ بمعَرفِتِهم وصُحبتِهم والأخذِ عنهم، وشُرْبِ فَضَلاتِ كُؤوسِهم، فسَكِرْتُ بِشَذا خمرَتِهم، وتَعلّقتْ روحي بهم، وتَشَوَّفَتْ نَفْسي إلى مغانيهِمُ، واسْتَشْرَفَ عَقلي ولُبّي مَعانيهِمُ. فإليكَ ـ عزيزي القارئ، الفَصْلَ في قَضِيَّةٍ شَغَلَتِ الكثيرين ممَّنْ قَرَؤوا أَشعارَهم، واسْتَمعَوا إلى غَزَلِهم. واللهُ الموفّقُ إلى صالحِ الأعمالِ فهو القصدُ وعليه التُكْلان.
ربّنا افتحْ بَيْنَنا وبين قومِنا بالحقِّ وأَنْتَ خيرُ الفاتحين. اللّهمَّ عَلِّمْنا ما يَنفَعُنا، وانْفَعْنا بما عَلَّمْتَنا إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ، وبالإجابةِ جَديرٌ، ربَّنا عَليك تَوَكَّلْنا وإَليكَ أَنَبْنا وإليكَ المصيرْ.

الثالث من ذي الحجة: 1429هـ
عبد القادر الأسود

pdf دراسة المرأة في الغزل الصوفي للشاعر عبد القادر الأسود


pdf دراسة المرأة في الغزل الصوفي للشاعر عبد القادر الأسود.

المرأة في الشعر الصوفي (نظرة السادة الصوفيين إلى الكون)للشاعر عبد القادر الأسود


الباب الثاني :

نظرة السادة الصوفية إلى الكون

 

       اِسْتَمَدَّ السادةُ الصوفيّون نَظرتَهم إلى الكونِ من الشرعِ الحنيفِ ، فهو (أي الكون) ما خُلِقَ إلاّ لِتَظْهَرَ عليه تجليّاتُ الخالقِ {سبحانَه} ولِتَظهرَ فيه أَسرارُ حِكمَتِه وبَديعُ صَنعتِه ، وإلاّ فليس له أَيَّةُ قيمةٍ بذاتِه ، فظهورُ الحقِّ فيه عِلَّةُ وجودِه ، وهو قائمٌ بقيّوميَّتِه {سبحانَه وتعالى} مستمرٌّ بمدَدِهِ.

         قال جلّ مِن قائلٍ في كتابه العزيز : ( هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ) (9)  فإذا كان الحقُّ {سبحانه} هو الظاهرُ وهو الباطنُ وهو الأوّلُ وهو الآخر، فهل ثمَّة وجودٌ ــ على الحقيقةِ ــ لشيءٍ معه أو قبله أو بعده ؟ وهل بعد الأوّلِ والآخِرِ والظاهرِ والباطنِ من شيءٍ ؟ وماذا بعــد الحقِّ إلاّ الضلال ؟ إذاً فالكونُ، بما فيه ، مجَازيُّ الوُجودِ حاثٌ زائل . 

         وقال العارف بالله أحمدُ بن عجيبة ، شـارح الحكـم العطائيّـــة لابن عطــاء الله السكندري ، في شرحه لحكمة ابن عطاء التـي يقول فيها: {الكونُ كلُّه ظُلمةٌ وإنّما أناره ظهورُ الحقّ فيه}: ( الكون من حيث كونِيَّتِه وظهورِ حِسِّهِ ، كلُّه ظلمةٌ لأنّهُ حِجابٌ لمن وَقَفَ معَ ظاهرِهِ عنْ شُهودِ رَبِّـه ) . (10)

          يقول الشيخ الجليل السيد عبد الكر يم الجيلي ، وهو حفيدُ الشيخ السيد عبد القادر الجيلاني {رضي الله عنهما}: ( الحمد لمن قام بحقِّ حمدِهِ اسمُ اللهِ، فتَجلّى في كلِّ كمالٍ اسْتَحقَّهُ واسْتوفاه ، حقيقةِ الوُجودِ المطلقِ … مَحْتِدِ العالَمِ الظاهرِ على صورةِ آدمَ …روحِ صُوَرِ المخترَعاتِ ، الموجودِ بكمالهِ ، من غيرِ حُلولٍ ، في كلِّ ذرَّة ٍ ، اللائحُ جمالُ وجهِهِ في كلِّ غُرَّةٍ … بصفاتِهِ جَمُلَ الجمالُ وعَمَّ ، وبذاِتهِ كمُلَ الكمالُ فَتَمَّ ، لاحَتْ محَاسِنُـهُ على صَفَحاتِ خُدودِ الصِفاتِ واستقامتْ بِقَيُّوميَّةِ أحديَّتِهِ قُدودُ الذاتِ ..كما يَشاءُ ظَهَرَ في كلِّ ذاتٍ بكلِّ خَلْقٍ ) . (11) 

          وفي كتابه المسمّى{نسيم السحر }يقول الجيليُّ {رضي الله عنه}: ألا ترى أنَّ الحقَّ {سبحانَهُ وتَعالى} لمّا أَرادَ ظُهورَهُ مِن عِلْمِهِ بالعَيْنِ ، خَلَقَ العالمَ َوصَوَّرَهُ على صُورَتِهِ في حَضْرَةِ الأَيْنِ ، ثُمَّ تجلّى على العالم بأسمائه وصِفاتِهِ فَعَرَفَهُ كلُّ ذي سَمْعٍ وعَيْنٍ ، فالمَعْرِفَةُ نتيجةُ التَناكُحِ المَعْنَوِيِّ ، أَيْ دُخولِ حُكْم الأَسْماءِ الإلهيَّةِ والصِفاتِ الرَ بّانيَّةِ في حقائقِ العالمَ ِ، فكانَ العالَمُ مخلوقاً مِنْهُ كما خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ آدمَ  ).ثم يقولُ في ذاتِ الموضوعِ والمَعنى شِعْراً نَقْتَطٍفُ منـــه هذيْن البيْتَيْن :

 

                   تَلوينُ هَـذا الحُسْنِ في وَجَنـاتِهِ                                أَبَداً ولا تَلوينَ في طَلَعاتِــهِ

                  فإذا تَرَكَّبَ حُسْنُ طَلْعَةِ شادنٍ                                  من كلِّ حُسْنٍ فهو واحدُ ذاتِهِ

 

(12)

                                                                                                                                                                                                             

          فالحُسنُ إذاً ، كما يرى السيّدُ الجِيليُّ ، مَصْدَرُهُ واحدٌ وإنْ تَعَدَّدتْ مظاهرُه، فالجميلُ واحدٌ ، وهو الحقُّ {جلَّ شأنُهُ} ولكنَّ تجليّاتِهُ متعدِّدةٌ ، وكذلك مَظاهرُهُ ، فلو قُدِّرَ لجميلٍ أنْ تجتَمعَ فيه كلُّ مظاهرِ الحُسْنِ والجمالِ ، لكان هذا الجميلُ هُوَ اللهُ الواحدُ ذاتُه بلا شكٍّ ولا ريبٍ ، لأنّه سيكون عندها كاملاً ولا كاملَ سوى الحقِّ {جلّ وعلا }. وكمـــا سيتجلّى {سبحانه} على عبادِهِ في الآخرةِ بصورٍ مختلفةٍ ــ كما ورد في صحيح مسلم عن سيدِنا رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم} ــ فإنَّه يتجلى لقلوبِ عبادِهِ المؤمنين في الدنيا بصورٍ مختلفةٍ ، كما ينبغي لذاتِه ، مِن غيرِ تشبيهٍ ولا تكييفٍ . والعارفون يرونَه في الدنيا في جميعِ الصورِ والتجليّاتِ ، في حين يحجب عنها أهلُ الحجاب ، ألم يَرَه سيّدُنا موسى {عليه السلام} في الجبل لمّا  تجلى له في الجبلِ فصَعِق موسى لعظمة تجلّيه {سبحانه} ؟ ولكنّ المؤمنين الذين سينعم اللهُ عليهم برؤيتِه في الجنّة ، سوف يؤتَوْن في الآخرةِ طاقةَ احتمالِ مشاهدةِ هذه العَظَمَةِ ، متجلّياً عليهم بجماله ــ جعلنا اللهُ منهم ــ أمّا في الدنيا فإنَّ الأبصارَ  مهيئةٌ لمشاهدة المخلوقاتِ وحسب ، ولذلك فلا سبيلَ إلى مشاهدتِه إلاّ في المظاهرِ الماديّةِ لهذه التجلّيات . يقول الشيخ إبراهيم الدسوقي {رضي الله عنه} :

سقانيَ محبـوبي بكأسِ المحبَّـــــةِ                                              

فتِهتُ على العُشّـاقِ سُكراً بخلوتي

 

ولاح لنــــــا نورُ الجلالةِ ؛ لو أَضا                                              لِشُمِّ الجبالِ الراسيـــــاتِ لَدُكَّتِ

وكنتُ أنا الساقي لمن كان حاضراً                                             أَطـوفُ عليهـم كرَّةً بعـــــدَ كــرَّةِ

تجلّى ليَ المحبوبُ في كلِّ وُجْهَةٍ                                                             فشاهدْتُـهُ في كلِّ مَعنًى وصورةِ  

(13)      

      وكلُّ ما في الوجود هو مظاهرُ لتجلّياتِ الذاتِ الإلهيّةِ . يقولُ ربُّنا {جلَّ في عُلاه} ((ولله المشرق والمغربُ فأينما تُولّوا فثَمَّ وجهُ اللهِ إنّ اللهَ واسعٌ عليم)).(14) فمن أنت أيُّها الإنسانُ لتغتر َّبنفسِكَ فترى لكَ ، أو لغيرك من الموجودات ، وجوداً مستقلاًّ عنه ؟ فا ستمعْ إلى ربِّك :( الذي خلقك فسوّاك  فعَدَلَكَ ، في أيِّ صورةٍ ما شاءَ ركَّبَكَ ) .(15) واشهدْهُ في جميعِ مظاهرِه واحداً أَحَداً لا نِدَّ له ولا شريكَ له في وجودِه ، يقول أحدُ العارفين:

 

إياك تشْهـدَ غـيرَه ودعِ العَنــــا                                                    لا أنت في هذا الوجود ولا أنا

إنَّ الوجودَ هو الحقيقيُّ الذي                                                    كنّـا بـه وبِـهِ نعودُ إلى الفَنـــــا

      واستمعْ إليه يُذَكِّرُكَ بمبدأِ خلقِكَ وحقيقةِ نفسِكَ ، إذ يقولُ في محكمِ كتابِه العزيز : (هل أتى على الإنسانِ حينٌ منَ الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً  * إنّا خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ نُطفةٍ ، أَمْشاجٍ نَبْتليه فجعلناه سميعاً بصيراً *) . (16)     لم يَدَعْكَ ربُّك بعد أنْ خَلقك هكذا ، بل إنّه {سبحانه وتعالى} يُمِدُّكَ بالحياة  في الأنفاسِ و اللّحظات:( كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ من عطاءِ ربِّكَ ، وما كان عطاءُ ربِّكَ محظوراً ). (17) ولا أنت ببعيدٍ عنه ، ولا هو عنك بغافل:(ولقد خلَقنا الإنسانَ ونعلمُ ما توسوسُ به نفسُهُ ونحنُ أقربُ إليه من حَبْلِ الوريد). (18)وهو معيدُك ومحاسبك يوم القيامة ، وقد أقام عليك الحجّةَ والشهود :((إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قَعيد * ما يَلْفِظُ مِن قولٍ إلاّ لديْه رقيبٌ عَتيد * وجاءت سكرةُ الموت بالحقِّ ، ذلك ما كنتَ من تحَيد*)) . (19) إذاً أين هو منكَ وأين أنتَ منه ، إذا كان أقربَ إليكَ مِن حَبْلِ وريدِك ، ويعلمُ ما تُحدِّثُكَ به نفسُك ؟ فاحذرْ أنْ تغتر َّبنفسك وتعصيَه ، وإنَّ مِن أعظمِ الذنبِ وأفظعِ المعصيَةِ أنْ تَرى لنفسِكَ أيَّ وجودٍ مستقلٍ عنه ، أو لغيرِك من المخلوقات  ومالك من عملِك إلاَّ النيَّةُ  أو الاختيارُ أو التوجُّه ، الذي إنّما عليه تُحاسَبُ .

       يقولُ الرسولُ الكريم {عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم}:( إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ وإنّما لكلِّ امْرئٍ ما نَوى ) . (20)  فأنت ليس لك من العملِ إلاّ النيَّةُ فقط ، لأنَّ العملَ مخلوقٌ من خلقِ اللهِ ، مثلُك :( واللهُ خَلَقكم وما تَعملون ).(21) وكلُّ ما في الكونَ مِن خلقِ الله وتدبـيرِهِ {جلَّ شأنه } فإيّاكَ ثمَّ إيّاكَ أنْ تَرى لكَ ، أو لغيرك من الخلقِ ، أيَّ وجودٍ معه ، فهو من الشِرْكُ و:(إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ به ويَغفِرُ ما دون ذلكَ لمن يشاء ) . (22) 

          ولكي نُقرِّبَ إلى أفهامِنا هذه المسألةَ ، في تَعدُّدِ المظاهرِ لِذاتٍ واحدةٍ نَضرِبُ المثالَ الآتي ــ ولله المثلُ الأعلى ــ : إذْ إنَّ التَيّارَ الكَهربائيَّ يَسْري في الأَسْلاكِ فيَظهرُ بمظاهرَ مخـتلفةٍ ، متنوعةٍ بتنوُّعِ الأجسامِ التـي يظهرُ فيها ، فيَكون في المِصباحِ نُوراً مُتوهِّجاً بلونٍ أَبيضَ ، أو أخضر َ، أو أحمرَ ، أو أصفرَ ، أو أزرقَ ، أو غيرَ ذلك ، بحسَب لونِ الزُجاجةِ.ويسري في التلفازِ  ، فيكونُ لهُ مَظهرٌ مخـتلفٌ آخر , من صوتٍ وصـورةٍ ، أمّا في المِذْياع ، فيكونُ صَـوْتاً وحسْب ، فإذا سَرى في آلةٍ أُخرى : مِكْنَسَةٍ ، أو غَسّالةٍ ، أو مِروحَةٍ ، أو مِدْفأةٍ ، ظَهَرَ هذا التيّارُ بما يُناسبُ الآلةَ التي سَرى فيها ، حيث يكون حركةً أو حرارةً أو … وهَكذا ، والتيّارُ واحد . وكذلك الشمسُ تُرْسِلُ أشِعَّتَها فتَرْفعُ من درجةِ حرارةِ الأرضِ باعثةً فيها الدفءَ والخِصْبَ والحياةَ ، فتُنبتُ الزرعَ ، وتُحرِّكُ الهواءَ، وتُساهمُ في تَكوين غِذاءِ النباتاتِ ، وتقتلُ الكثيرَ مِن الجراثيمِ والحشراتِ والبكترياتِ ، وتبثُّ الحياةَ في مخلوقاتٍ أُخرى بِمشيئتِهِ وقدرته ، {سبحانَه}. وتَسْقُطُ أَشعّتُها على سطحِ الماءِ ، في المحيطاتِ والبِحارِ ، فتُبخِّرُ منهُ ما شاءَ ربُّها لتَتَشَكّلَ الغيومُ التـي تـتساقطُ على الأرضِ قَطراتٍ تحيي مَواتَها ، وهي قبلَ هذا وبعدَه مصدرُ الضوءِ في النَّهار ، وفي الليلِ حيث تَنْعَكِسُ أَشِعَّتُها على سَطْحِ القَمرِ فيكونُ لها ضوءٌ آخر مختلفٌ عن ضوءِ النهارِ .كلُّ هذهِ  المظاهِرِ وغيرُها كثيرٌ ، يَصْعُبُ حَصْرُهُ ، لِجُرْمٍ واحدٍ هو الشَمْسُ ، مَظاهرُ وفوائدُ لا يُحصيها إلاّ خالقُها {جَلَّ وعَلا} الذي خلَقَ الخلائقَ وقَدَّرَ الأقدار .

     

المرأة في الشعر الصوفي (لمحة عن التصوف) للشاعر عبد القادر الأسود


الباب الأول :

لمحة عن التصوّف الإسلامي

 

التصوُّف هو الركنُ الثالث من الدين الإسلاميِّ  الحنيف (الإحسان) ، لأنَّ أَرْكانَ الدين الإسلاميِّ ثلاثةٌ ، بإجماعِ الأُمَّةِ ، لما وَرَدَ في الحديثِ الشريفِ الذي أخرجه الإمامُ البخاري والإمام مسلم {رحمهما الله} في صحيحيهما وهما أصدقُ الكتب نصّاً وأصحُّها رواية ــ بعد كتاب الله {جلّ في علاه}وقد أخرجه الإمام مسلم  في كتاب الإيمان من صحيحِه ِ، عن سيدنا عمرَ بنِ الخطابِ {رضي اللهُ عنه} ، وكذلك أخرجه الإمامُ البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه ، وهذه روايته عن أبي هريرة {رضي الله عنه }. قال:(كان النبيُّ {صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم} بارزاً يوماً للناس ، فأتاه رجلٌ فقال : ما الإيمان ؟ قال الإيمانُ أنْ تؤمنَ باللهِ وملائكتِهِ وبلقائه وبرسلِه وأن تؤمن بالبعث . قال: ما الإسلامُ؟ قال: الإسلامُ أن تعبُدَ الله ولا تُشرِكَ به، وتقيمَ الصلاةَ ، وتُؤتيَ الزكاةَ المفروضةَ ، وتصومَ رمضان. قالَ ما الإحسانُ؟ قالَ: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ ، فإن لم تكن تراهُ {سبحانه وتعالى} فإنَّه يراك . قال : متى الساعةُ ؟ قال : ما المسئولُ عنها بأَعلمَ من السائلِ، وسأخْبرُك عن أشراطِها : إذا وَلَدَتِ الأَمَةُ ربّها ، وإذا تطاوَلَ رُعاةُ الإبِلِ البَهْمِ في البُنيانِ ، في خمسٍ لا يعلَمُهُنَّ إلاّ اللهُ , ثمَّ تلا النبيُّ { صلى الله عليه وآلِه وسلّم }:{ إنَّ اللهَ عندَه عِلمُ الساعةِ } الآيةَ ، ثمَّ أَدْبَرَ ، فقالَ رسولُ الله{صلى الله عليه وسلّم } : رُدُّوهُ فلم يَرَوْا شيئاً،فقال:(هذاَ جبريلُ أتى يُعلِّمُ الناسَ دينَهم).(1)

فالدين ، إذاً ، بنصّ الحديثِ الصحيحِ السابقِ ، إيمانٌ وإسلامٌ وإحسانٌ، والإحسانُ مراقبةُ المرءِ للهِ { عَزَّ وجلَّ } في عاداتِه وعباداتِه وفي جميعِ أحوالِه، وتقديمُهُ الإخلاصَ للهِ{ تعالى} في أعمالِهِ ، وفي جميع حَرَكاتِهِ وسَكناتِهِ.

          يقول العلاّمةُ الحافظُ أبو عبد الله محمد صِدّيق الغِماريُّ {رحمه الله } ، وقــد سُئلَ عن أوّل مَنْ أسّسَ التصوُّفَ ، وهل هو بوحيٍ سماويٍّ ؟ فأجاب:

         أمّا أوَّلُ من أسَّسَ الطريقةَ ، فلْتَعلمْ أنَّ الطريقةَ أسّسها الوحيُ السماويُّ ، في جملةِ ما أسّسَ من الدين المحمّدي، إذ هو بلا شكٍّ مَقامُ الإحسانِ الذي هو أَحَدُ أَركانِ الدينِ الثلاثةِ التـي جعلها النبيُّ {صلى الله عليه وسلّم } ــ بعد ما بيّنَها واحداً واحداً ــ ديناً بقوله :(هذا جبريلُ أتاكم يعلّمُكم دينَكم) وهي الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ .

         الإسلامُ طاعةٌ وعِبادةٌ ، والإيمانُ نُورٌ وعقيدةٌ ، والإحسانُ مَقامُ مُراقبةٍ ومُشاهدة ، إلى أنْ يقول: فمن أَخَلَّ بهذا المقـام الإحسان الذي هو الطريقةُ ، فدينُه ناقصٌ بلا شكٍّ ، لتركِهِ رُكْناً من أركانِهِ . غايةُ ما تدعوا إليهِ الطريقةُ وتُشيرُ إليْه هو مَقامُ الإحسـانِ بعد تَصحيحِ الإسلامِ والإيمانِ ) . (2)  

          جاء في الحديثِ الذي رَواهُ البَزَّارُ ورَواهُ الطَبَرانيُّ في الجامعِ الكبيرِ ، من حديث ِسيّدنا أَنسٍ بنِ مالكَ {رضي الله

عنه } أنَّ سيِّدَنا رسولَ الله {صلى الله عليه وسلَّم } سألَ الصحابيَّ الجَليلَ سيِّدَنا حارثَةَ {رضي اللهُ عنه} فقال :(كيف أصبحتَ يا حارثةَ ؟ فقال حارثةُ : أصبحتُ مؤمناً حقّاً يا رسول الله ، قال رسولُ الله : اُنْظرْ ما تَقولُ فإنَّ لكلِّ أَمْرٍ حقيقةٌ ما حقيقةُ إيمانك؟ فقال حارثةُ: عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي ، وأظمأتُ نهاري، وكأنّي أَنظرُ إلى عرشِ ربّي بارزاً ، وكأَنّي أَنظُرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجنّةِ يَتزاوَرونَ ، وإلى أهلِ النارِ في النارِ يَتعاوُون ، فقال النبي {صلى الله عليه وسلَّم}:(عَرَفْتَ فالْزَمْ عَرَفْتَ فالْزَم)، وهذا هو التصوُّف الحقُّ وهذه غايتُه . وقــد جاء في كتاب اللُّمَـع لأبي نصرٍ السَراج الذي حقّقـــهُ إمـامُ الأزهرِ الشريفِ الدكتورُ عبـدُ الحليمِ محمود {رحمه الله} ما نَصُّه : ( الصوفيّةُ أرْبابُ أَحوالٍ وسلوكٍ ، منها الاعتراضُ لِسلوكِ سُبُلِ الأَولياء ، والنزولُ في منازِلِ الأَصفياء) ويقول إمام الطائفتين ــ أهل الحقيقة وأهل الشريعة ــ الجُنيدُ {رضي الله عنه } في حَدِّ التصوّفِ : (أَن تكونَ مع اللهِ بِلا عَلاقةٍ ) وقيل:(هو العِصْمَةُ عن رؤيةِ الكَوْن). (3) قال بعضهم :(التصوُّفُ كلُّه أخلاق ، فمن زاد عليك بالأخلاق ، زاد عليك بالتصوُّف) . (4) ذلك لأنّ رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إنّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ ، والصوفي الحَقُّ هو مَن جعلَّ همَّه اتّباعَ رَسولَ الله {صلى الله عليه وسلّم} في جميعِ أَقوالِهِ وأفعالِهِ وأَحوالِهِ ، والتخلُّقَ بأخلاقه .

         يقولُ إمامُ الطريقةِ الشاذليّة الشيخُ أبو الحسن الشاذِليُّ {رضي الله عنه}: (التصوُّف تدريبُ النفس على العبوديَّة ورَدُّها لأحكامِ الرُبوبيّة). (5)

         مما تقدّم يتبين لنا أنَّ التصوّف هو لبُّ الدين الإسلاميِّ الحنيف وروحُه على مقتضى الشريعة السمحة والملّة الحنيفيّة ، وأنَّ المتصوّفين هم العاملون بظاهر الشريعة المتحقّقون ببواطنها وغاياتها ، وأنّهم في ذلك كلِّه مقتدون بمن نزلت عليه هذه الشريعة سيد الوجود محمد بن عبد الله {عليه الصلاة والسلام }.

               ولذلك فقد عَدَّ الإمامُ الشعرانيُّ {رضي الله عنه} مُنكِرَ طريقِ القومِ كافراً من حيثُ لا يشعُرُ ، لأنّهُ إنّما يَكْفُرُ بِشرْعِ ربّهِ الذي نَزَّلَ على عبدِهِ{عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ السلام} يقول في (كتابه لواقح لأنوار القدسيّةِ في بيان العهود المحمّدية) ما نصُّه : (وإيّاك أن تقول بأنَّ طريق الصوفيَّة لم يأتِ بها كتابٌ ولا سُنَّةٌ فإنَّه كفرٌ، فإنَّها كلَّها أخلاقٌ محمّديّةٌ سَداها ولُحمتُها منها ) . (6)

         يقول شيخُنا المُربي الكبيرُ والعارِفُ بالله الشيخ عبد القادر عيسى {رحمه الله تعالى} في كتابِهِ حَقائق عن التصوّف ما نَصُّه : (ونحن إذْ نَدْعو إلى التَصوُّفِ إنّمـا نَقصـد بـه تَزْكيَـةَ النفوسِ ، وصَفاءَ القلوب وإصلاحَ الأخلاقِ،والوصولَ إلى مَرْتَبَةِ الإحسان). (7)

          وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ : الصُّوفِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفٍ أَرْبَعَةٍ فَالصَّادُ صَبْرُهُ وَصِدْقُهُ وَصَفَاؤُهُ وَالْوَاوُ وَجْدُهُ وَوُدُّهُ وَوَفَاؤُهُ وَالْفَاءُ فَقْدُهُ وَفَقْرُهُ وَفَنَاؤُهُ وَالْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ إذَا تَكَمَّلَ نُسِبَ إلَى حَضْرَةِ مَوْلَاهُ ، وَقَالَ عَلِيٌّ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ} : لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يَـكُونُ الصُّوفِيُّ صُوفِيًّا حَتَّى لَا يَكْتُبَ عَلَيْهِ كَاتِبُ الشِّمَالِ شَيْئًا عِشْرِينَ سَنَةً أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ ذَنْبٌ ، بَلْ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِمْهَالِ : أَيْ أَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ  ) . (8)

        قــد ظهرتْ ، فيمـا بعــدِ عهدِ النبوَّةِ ، تَسْمِياتٌ كثيرةٌ اقتضَتْها الحاجةُ وفَرَضَها التطوُّرُ والاختصاصُ ، ولم يعترض عليها أحَد ، كالفُقهاء ِ: وهمُ المُختَصُّونَ باسْتِنباطِ أَحكامِ الشريعةِ مِن مَصادِرِها المعروفة ، والمفسِّرين: وهم الذين تَخَصّصوا بعلمِ تفسير القرآن ، والمحدِّثين : الذين تَفرَّغوا لجمعِ حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلّم} وتصنيفه وحفظِه بإسنادِهِ وتدوينِهِ وبيانِ صحيحِه مِن ضعيفِهِ ، وما هو موضوعٌ كَذِباً وافْتِراءً على رسول الله {صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم} وكعِلْمِ النحوِ ، وعلمِ البَلاغةِ ، وعلم العَروضِ ، وغيرِ ذلك من علوم ٍمُسْتَحْدَثَةِ الأسماءِ، وكلُّها مِن أَصْلِ الشَريعةِ والدينِ ، فهل يُعْقَلُ أَنْ نَقولَ بأنَّ عِلْمَ الحديثِ ، مثلاً ، هو علمٌ دَخيلٌ على المِلَّةِ والدينِ ؟

 

 

Previous Older Entries

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com