الشواهد، نسبتها ومناسبتها


ـ 10 ـ

كناطح صخرة يوماً ليوهنها ……….. فلم يَضُرَّ وأعيا قَرْنََهُ الوَعِلُ

هذا البيت للأعشى الكبير، ميمون بن قيس، مِن لاميّتِه المشهورة، وهذا البيت من شواهد ابن عقيلٍ على عمل اسم الفاعل عمل فعله، وذلك في شرحه لألفيّة ابنِ مالكٍ في النحو، والأعشى من تميم إحدى أكبر قبائل العرب وأهمِّها، وهو من فحول شعراء العربية.

وفي سيرة هذا الشاعر الكبير قصة طريفة نرويها لما فيها من توضيح لمكانة الشعر عند العرب، فق روي أنَّ رجلاً كان مُبْنِتاً، وكان فقيراً خاملَ الذكر، فلم تُخطَبْ بناتُه، وكانتِ امرأتُه ذاتَ فطنةٍ ودَهاءٍ، فأشارتْ عليه، فاعترضَ سبيلَ الأعشى في موسم الحجِّ، أثناء توجُّهِهِ إلى مَكَّةَ، فذبَحَ لَه ناقتَه، واشترى ببعضِ لَحْمِها خَمْراً وشوى الباقي فأطعَمَه وسَقاه، وأَحْسَنَ ضِيافتَه، وفَطِنَ الأعشى إلى غَرَضِ الرَّجُلِ مِن ذلك لمَّا رأى كَثرَةَ بنات الرجلِ، فذَكَرَه في قصيدةٍ أَنشَدَها في موسم الحجِّ، فأقبل الناسُ على بناتِ هذا الرجلِ فخَطَبوا بناتِه، حتى إنَّه وهو في مَوْسِمِ الحَجِّ، أهدي له هي من مهرِهنَّ، وقيلَ إنَّه ما كاد يَنْتَهي مَوسِمُ الحَجِّ حتى خُطِبت بناتُ الرجُلِ جميعهن، وقد لُقِّّبَ الأعشى، هذا، بصنّاجةِ العَرَبِ لأنَّه كان يُرافِقُ إنشادَه لِشِعرِه آلةُ الصِنْجِ، وهي آلة وتَرِيَّةٌ كان العرب يَعْزِفون عليْها، وقيلَ غيرُ ذلك.

والمعلّقةُ التي منها هذا البيت، قد جَمَعتْ رِقّةَ التََشبيبِ، ورَوْنقَ التَشبيه، وروائعَ الفخرِ، وشديدَ الحماسةِ، في لفظٍ جَزْلٍ، وأُسلوبٍ رائعٍ. وهي قصيدةٌ غرّاءُُ، تَمْلُكُ القلوبَ، وتَسْتَرِقُّ الأسماعَ، وتأسرُ الأفهام.
وذكروا في سببِ نظمِها أنّ رجُلاً مِن بني كَعْبٍ بْنِ سَعْدٍ بْنِ مالكٍ يُقال لَه ضُبيْعٌ، قَتَلَ رَجُلاً من بني هُمّامٍ يُقالُ له زاهر بْنُ سيَّارٍ، من بني ذُهل بنِ شيبان، فهمَّ قومُه بقتلِ، ضُبيع فنهاهم يَزيد بْن مُسَهِّرٍ أنْ يقتلوه بِه، وكان ضُبيع مَطروقاً ضعيفَ العَقلِ، وقال: اقتلوا به سعيداً، مِنْ بني سَعدٍ بْنِ مالك، وحَضّ بني سيّار على ذلك وأمرهم به. وبلغ بني قيسَ ـ وهم عشيرة سعيد ـ ما قاله يزيد بن مُسهّر. فقال الأعشى، هذه القصيدة يأمرُه أنْ يَدَعَ بني سيّار وبني كعب، ولا يعين بني سيّار. فإنّه إنْ أعانَهم أعانت بنو قيسٍ بني كعبَ. وهذه أبيات منتخبة مِنْ مُعلَّقتِه هذه:

ودّعْ هريرةََ، إنّ الركبَ مُرتَحِلُ ………………. وهل تُطيقُ وَداعاً أيُّها الرجلُ؟
غَرَّاءُ، فَرعاءُ، مصقولٌ عَوارضُها ….. تمشي الهُويْنا، كما يَمشي الوََجِي الوَحِلُ
كأنَّ مِشيتََها من بيتِ جارتِها …………………. مَرُّ السَحابةِِ: لا رَيْثٌ ولا عَجِلُ
ليست كمن يَكره الجيرانُ طلعتَها ………………. ولا تــراها لسرِّ الجارِ تختتِلُ
يكاد يصرعها لولا تشدّدُها …………………….. إذا تقوم إلى جاراتها، الكسلُ
إذا تقوم يضوع المسك أَصْوِرةً ……………… والزنبقُ الوَرْدُ من أردانِها شَمِلُ
ما روضةٌ من رياضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ……….. خضراء، جاد عليها مُسبِلٌ هَطِلُ
يُضاحك الشمسَ منها كوكبٌ شَرُقٌ ………………. مؤزّرٌ بعميمِ النبتِ، مُكْتَهِِلُ
يوماً بأطيبَ منها نَشْرَ رائحةٍ ………………… ولا بأحسنَ منها إذ دنا الأُصُلُ
قالت هُريرةُ لما جئتٌ زائرَها: …………….. ويلي عليك، وويلي منك يا رجلُ

ثمَّ ينتقل إلى الغرض من القصيدة فيقول:

أبلغ يزيدَ بني شيبانَ مَأْلَكةً ……………………….. أبا ثُبيتٍ، أما تَنْفَكُّ تأتكِلُ؟
ألستَ منتهياً عن نحتِِ أَثْلَتِنا …………………. ولستَ ضائرَها ما أطَّتِ الإبلُ
كَناطِحٍ صخرةً يوماً لِيُوهِنَها …………………… فلم يَضُرَّ وأَعيا قرنَه الوَعِلُ

شرح بعض المفردات:

الوجي: حافي القدمين.
أصورة: جمع صُّوَارِ، الرائحَةُ الطَّيِّبَةُ والقَليلُ من المِسْكِ.
مكتهل: اكْتَهَل النبت: طال وانتهى منتهاه.
المألكة: الرسالة .
تأتكل: تتضرم حقداً.
أثلتنا: صخرتنا أو جبلنا أصلنا، يقال: أثَلَ يَأْثِلُ أُثُولاً، وتَأثَّلَ: تَأَصَّلَ. وتَأثَّلَ: عَظُمَ والأَثَل: مَتاعُ البَيْتِ. والأَثْلُ: شَجَرٌ واحِدَتُهُ: أثْلَةٌ ج: أثَلاتٌ وأُثولٌ. والأَثالُ كسَحابٍ وغُرابٍ: المَجْدُ والشَّرَفُ. وكغُرابٍ (أُثال): جَبَلٌ.
أَطَّتِ الإبلُ تَئِطُّ أَطِيطاً: أَنَّتْ تَعباً أو حَنِيناً.
فائدة:
هذا البيت شاهد على عمل اسم الفاعل عمل فعله، دون اعْتِمَاده على استِفهامٍ، أو نفيٍ أو مُخْبَرٍ عنه، أو موصوفٍ، أو الحال.
فمثال الاستفهام قولك: أعارفٌ أنتَ قَدرَ نفسِكَ؟ ومنه قول الشاعر: أَمُنجِرٌ أنتُمُ وَعْداً وثِقتُ به” ومثال النفي قولك: ما طالِبٌ أخواكَ ضُرَّ غيرِهما”.
ومثالُ المُخْبَر عنه ما قاله امرؤ القيس:

إني بِحَبْلِكِ واصِلٌ حَبلِي ……………………….. وبِريشِ نَبْلِك رائِشٌ نَبْلِي

ومثال النعت قولك: “ارْكُنْ إلى عِلْمٍ زائِنٍ أَثَرُه مَن تَعَلَّمَهُ”. ومثال الحال: “أَقْبَلَ أَخوك مُسْتَبْشِراً وَجْهُه”. فقد عمل اسمُ الفاعِلِ في هذه الأمثلة عملَ فعلِه، فرَفَع فاعلاً ونصبَ مَفعولاً به، ما عدا الأخيرَ منها حيث كان له فاعلٌ فقط لأنَّ فعلَه (استبشر يستبشر) فعلٌ لازمٌ لا يحتاج مفعولاً به. والاعتِمادُ على المقدَّر منها كالاعتماد على الملفوظِ به نحو: “مُعِطٍ خالدٌ ضَيْفَهُ أمْ مَانِعهُ”؟ أيْ أَمُعْطٍ (بدليل وجودِ “أم” المتصلة فإنها لا تأتي إلاَّ في سياق النفي). ونحو قولِ الأعشى في هذا البيت:
كَناطِحٍ صَخْرةً يوماً لِيُوهِنُهَا ……………… فَلمْ يَضِرْهَا وَأَوهَى قَرْنَه الوَعِلُ
أَي كَوَعْلٍ نَاطِحٍ. وفي الإعراب نقول: ناطح: اسمُ فاعلٍ عمِلَ عمَل فعلِهِ (نَطَحَ)، فنَصَبَ مَفعولاً به هو صخرةً.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com