الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 118


وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
 
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} وقد حرَّمنا على الذين هادوا خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ أُمَمِ الأَوَّلينَ. والهَوْدُ في اللُّغَةِ: التَّوْبَةُ، وهو مِنْ هادَ يَهُودُ هوْدًا، إِذا تابَ إِلى اللهِ تَعَالَى مِنْ ذَنْبِهِ، ورَجَعَ عَنْ غيِّهِ. وتَهَوَّدَ أَيضًا: تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الحَقِّ فَهُوَ هَائدٌ، وقَوْمٌ هُودٌ، مِثْلُ: بازِلٍ وبُزْلٍ، وفي التَنْزيلِ قوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَة إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} الآيَةَ: 156، أَيْ تُبْنَا إِلَيْكَ، وَقالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {إِنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هادُوا} الآية: 62، أَيْ تَهَوَّدُوا يُقالُ: هَادَ وتَهَوَّدَ إِذا دَخَلَ فِي اليَهُودِيَّةِ، وقالَ زُهَيْرٌ:
سِوَى رُبَعٍ لم يَأْتِ فيها مَخافةً ……………. ولا رَهَقًا مِنْ عابِدٍ مُتَهَوِّدِ
المُتَهَوِّدُ: المُتَقَرِّبُ، والمُتَهَوِّدُ أَيْضًا: المُتَوَصِّلُ بِهَوادةٍ إِليْهِ. وأَيضًا التَّهَوُّدُ: التَوْبَةُ والعَمَلُ الصَّالِحُ، والهَوادَةُ: الحُرْمَةُ والسَبَبُ. وهادَ: إِذا رَجَعَ مِنْ خَيْرٍ إِلى شَرٍّ، أَوْ مِنْ شَرٍّ إِلى خَيْرٍ، وهادَ: إِذا عَقَلَ، ويَهُودُ اسْمٌ للقَبيلَةِ أَيضًا، قالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ يُؤَنَّبُ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْداسٍ السُّلَمِيَّ فِي مَدْحِهِ قُرَيْظَةَ وبُكائِهِ عَلَيْهِمْ، مُشِيرًا إِلَى أَنَّ مَدْحَهُ الْأَنْصَارَ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، كَانَ أَوْلَى بِهِ:
أُولئِكَ أَوْلى مِنْ يَهُودَ بِمِدْحةٍ …………. إِذا أَنتَ يَوْمًا قُلْتَها لم تُؤَنَّبِ
وقالَ الشاعِرُ الجاهِلِيُّ الأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ النَهْشَلِيُّ:
فَرَّتْ يهودُ وأَسْلَمَتْ جيرانُها ………… صَمِّي لِمَا فَعَلتْ يَهُودُ صَمَامِ
وقِيلَ إِنَّما اسْمُ هَذِهِ القَبيلَةِ يَهُوذ فَعُرِّبَ بِقَلْبِ الذالِ دالًا، وأَدْخَلوا الأَلِفَ واللامَ فِيها عَلَى إِرادَةِ النَسَبِ فقالوا: اليَهودُ، يُريدونَ اليَهُودِيِّينَ، وهادُوا: دَخَلُوا في اليهوديةِ، قالَ تَعَالى مِنْ سُورةِ الأَنْعامِ: {وَعَلَى الذينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُر} الآية: 146، قالَ الفَرَّاءُ المَعْنَى دَخَلوا فِي اليَهُوديَّةِ. وفي قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ : {وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} الآية: 111، قالَ يُريدُ يَهُودًا فَحَذَفَ الياءَ الزائدَةَ، وَرَجَعَ إِلى الفِعْلِ مِنْ اليَهودِيَّةِ وفي قراءَةِ أُبيٍّ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ: {إِلَّا مَنْ كانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا} قالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُودًا جَمْعًا واحِدُهُ هائِدٌ، مِثْلُ حائِلٍ وعائطٍ مِنَ النُّوقِ والجَمْعُ حُولٌ وَعُوطٌ، وَجَمْعُ اليَهودِيِّ يَهُودٌ، كَمَا يُقالُ في المَجُوسِيِّ مَجُوسٌ، وفي العَجَمِيِّ عُجْمٌ، وفي العَرَبِيِّ عُرْبٌ، والهُودُ: اليَهُودُ، هادُوا يَهُودُونَ هَوْدًا، وَسُمِّيَتِ اليَهُودُ اشْتِقاقًا مِنْ هادُوا، أَيْ: تابُوا، وأَرادوا باليَهُودِ اليَهُودِيِّينَ، ولكنَّهم حَذَفوا ياءَ الإِضافَةِ كَمَا قالوا: زِنْجِيٌّ وَزِنْجٌ، وإِنَّما عُرِّفَ عَلى هَذَا الحَدِّ فَجُمِعَ عَلى قِياسِ شَعيرَةٍ وشَعِيرٍ ثمَّ عُرِّفَ الجَمْعُ بِالأَلِفِ واللامِ، ولولا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ الأَلِفِ واللامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ مُؤَنَّثٌ، فَجَرَى فِي كلامِهِمْ مَجْرَى القَبيلَةِ، ولَمْ يُجْعَلْ كالحَيِّ، وهَوَّدَ الرَّجُلَ: حَوَّلَهُ إِلى مِلَّةِ يَهُودَ، قالَ سِيبَوَيْهِ، وفي الحديثِ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، حَتَّى يَكونَ أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أَوْ يُنَصِّرانِهِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُما يُعَلِّمانِهِ دِينَ اليَهُودِيَّةِ والنَّصَارَى، ويُدْخِلانِهِ فِيهِ، والتَّهْوِيدُ أَنْ يُصَيَّرَ الإِنْسانُ يَهُودِيًّا، فهَادَ وَتَهَوَّدَ إِذا صَارَ يَهودِيًّا، والهَوادَةُ: اللِّينُ، وَمَا يُرْجَى بِهِ الصَلاحُ بَيْنَ القَوْمِ، وفي الحَديثِ: ((لا تَأْخُذُهُ في اللهِ هَوادَةٌ)). أَيْ: لا يَسْكُنُ عِنْدَ حَدِّ اللهِ، ولا يُحابي أَحَدًا فِيهِ، والهَوادةُ السُّكونُ والرُّخْصةُ والمُحاباةُ، وفي حديثِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أُتِيَ بِشارِبٍ فَقَالَ: لأَبْعَثَنَّكَ إِلى رَجُلٍ لا تأْخُذُهُ فيكَ هَوادَةٌ، والتَّهْوِيدُ، والتَّهْوادُ، والتَّهَوُّدُ، الإِبْطاءُ في السَّيْرِ، واللِّينُ، والتَّرَفُّقُ. والتَّهْوِيدُ المَشْيُ الرُّوَيْدُ، مِثْلُ الدَّبِيبِ ونَحْوِهِ، وأَصْلُهُ مِنَ الهَوادةِ، والتَّهْوِيدُ: السَّيْرُ الرَّفِيقُ، وَفي حَديثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ: إِذا مُتُّ، فَخَرَجْتُمْ بي، فأَسْرِعُوا المَشْيَ، ولا تُهَوِّدُوا، كَمَا تُهَوِّدُ اليهودُ والنَّصَارَى، وفي حَديثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: إِذا كُنْتَ في الجَدْبِ فأَسْرِعِ السَّيْرَ، ولا تُهَوِّدْ، أَيْ: لا تَفْتُرْ. قالَ: وكَذَلِكَ التَّهْوِيدُ في المَنْطِقِ، وهوَ السَّاكِنُ، يُقالُ: غِناءٌ مُهَوِّدٌ، وقالَ الرَّاعِي النُمَيْري يَصِفُ ناقَةً:
وخُودٌ مِنَ اللاَّئي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى …… قَرِيضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوِّدِ
قولُهُ: وخُودٌ، الواوُ هنا أَصْلِيَّةٌ ولَيْسَتْ بِواوِ العَطْفِ، وهُوَ مِنْ وَخَدَ يَخِدُ، إِذا أَسْرَعَ، وهَوَّدَ الرَّجُلُ: إِذا سَكَنَ، وهَوَّدَ: إِذا غَنَّى، وهَوَّدَ: إِذا اعْتَمَدَ عَلَى السَّيْرِ، قالَ ذو الرُّمَّةِ مرتجزًا:
سَيْرًا يُراخِي مُنَّةَ الجَلِيدِ ………………….. ذَا قُحَمٍ وَلَيْسَ بالتَّهْوِيدِ
أَيْ: لَيْسَ بالسَّيْرِ اللَّيِّنِ، والتهوِيدُ أَيْضًا: النَّوْمُ، وتَهْوِيدُ الشَّرابِ: إِسْكارُهُ، وهَوَّدَهُ الشَّرابُ: إِذا فَتَّرَهُ فأَنامَهُ، قالَ الأَخْطَلُ:
ودافَعَ عَنِّي يَوْمَ جِلَّقَ غَمْزُهُ ……….. وصَمَّاءُ تُنْسِيني الشَّرابَ المُهَوِّدا
والهَوادَةُ: الصُّلْحُ، والمَيْلُ: والتَهْوِيدُ، والتَّهْوادُ: الصَّوْتُ الضَّعيفُ اللَّيِّنُ الفاتِرُ، والتَهْوِيدُ: هَدْهَدةُ الرِّيحِ في الرَّمْلِ، ولِينُ صَوْتِها فيه، والتَّهْوِيدُ: تَجاوُبُ الجِنِّ، وذَلِكَ لِلِينِ أَصْواتِها وَضَعْفِها، قالَ الراعي النميريِّ:
يُجاوِبُ البُومَ تَهْوِيدُ العَزِيفِ بِهِ …………… كَمَا يَحِنُّ لِغَيْثٍ جِلَّةٌ خُورُ
والتَهْوِيدُ التَرْجِيعُ بالصَّوْتِ في لِينٍ، والهَوادَةُ: الرُّخْصَةُ، وَهْوَ مِنْ ذَلِكَ لأَنَّ الأَخْذَ بِها أَلْيَنُ مِنَ الأَخْذِ بالشِدَّةِ، والمُهاوَدَةُ: المُوادَعَةُ، والمُهاوَدةُ: المُصالَحَةُ، والمُمايَلةُ. والمُهَوِّدُ: المُطْرِبُ المُلْهِي. والهَوَدَةُ، بالتحريك: أَصْلُ السَّنامِ. والهَوَدةُ: مُجْتَمَعُ السَّنَامِ، والجَمْعُ: هَوَدٌ. وقالَ: كُومٌ عَلَيْها هَوَدٌ أَنْضَادُ، وَتُسَكَّنُ الواوُ فَيُقالُ: هَوْدَةٌ. وَهُودٌ: اسْمٌ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِياءِ اللهِ تعالى ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ويَنْصَرِفُ فَتَقولُ هَذِهِ هُودٌ، إِذا أَردْتَ سُورَةَ هُودٍ، وإِنْ جَعَلْتَ هُودًا اسْمَ السُّورَةِ لَمْ تَصْرِفْهُ وَكَذلِكَ نُوحٌ ونُونٌ. وقدْ يُجْمَعُ يَهودُ عَلى يُهْدَانٍ بِضَمٍّ فَسُكونٍ، قال حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ ـ رَضِي اللهُ عُنْهُ يَهْجُو الضَّحَّاكَ ابْنَ خَلِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ وكان أَبو الضَّحَّاكِ مُنَافِقًا:
أَتُحِبُّ يُهْدَانَ الحِجَازِ وَدِينَهُمْ ………. عَبْدَ الحِمَارِ ولا تُحِبُّ مُحَمَّدَا
قولُهُ: {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} مِنْ قَبْلُ: أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {وَعَلَى الذينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآيَة: 146.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: “وَعَلى الَّذينَ هادوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ” قَالَ: فِي سُورَة الْأَنْعَامِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: “وَعَلى الَّذينَ هادوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ” قَالَ: مَا قَصَّ اللهُ ذِكْرَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَعَلى الَّذينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَصَادِقونَ) الآيَة: 146، مِنْ سُورةِ الْأَنْعَامِ.
ويُحْتَمَلُ أَنْ يُقدَّرَ الكلامُ: مِنْ قَبْلِ تَحْريمِ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِكَ “مِنْ قبلُ”، وَهُوَ أَوْلَى. وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ الكلامُ مِنْ بابِ التَنَازُعِ، وكانَ اليهودُ يَقولونَ: لَسْنَا أَوَّلَ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ هذِهِ الأَشياءُ، وإِنَّما كانَتْ مُحَرَّمَةً عَلى نُوحٍ وإِبْراهيمَ. وَمَنْ بَعْدَهُمَا حَتَّى انْتَهَى التَحْرِيمُ إِلَيْنَا، فَرَدَّ اللهُ فِرْيَتَهم، وهذا واضِحٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآيةَ: 160.
قولُهُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بِذَلِكَ التَحْرِيمِ وَلكِنْ كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. مِنْ حِيْثُ أَنَّهم فَعَلُوا مَا عُوقِبُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ التحريم. وَفِيهِ تَنْبيهٌ عَلَى أَنَّ الفَرْقَ بَيْنَهم وبَيْنَ غَيْرِهم فِي التَحْريمِ، وَأَنَّهُ قدْ يَكونُ التحريمُ عقوبةً، وقد يكونُ بسببِ الضَرَرِ يكون للعقوبة.
قولُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا} الوَاوُ: ، و “عَلَى” حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “حَرَّمْنَا” الآتي، و “الَّذِينَ” اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وجُمْلَةُ “هَادُوا” صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} حَرَّمْنَا: فِعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ هو “نا” المُعَظِّمِ نفسهُ ـ سبحانَهُ وتَعالى، و “نا” التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، و “مَا” اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، والجُمْلةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ “قَصَصْنَا” مِثْلُ “حَرَّمْنَا” لَهُ نَفْسُ الإِعْرابِ. وَ “عَلَيْكَ” عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “قَصَصْنَا”، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، و “مِنْ” حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “حَرَّمْنَا” أَوْ بِـ “قَصَصْنَا”، و “قَبْلُ” اسْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ وَهوَ مُضافٌ، إِلى مُضَافٍ إِلَيْهِ مُقَدَّرٍ، أَيْ: ومِنْ قَبْلِ تَحْريمِنا عَلَى أَهْلِ مِلَّتِكَ. وَجُمْلَةُ “قَصَصْنا عَلَيْكَ” صِلَةٌ لِـ “مَا” لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصِبِ، والعائدُ أَوِ الرّابِطُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ.
قولُهُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} الوَاوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و “مَا” نَافيةٌ، و “ظَلَمْنَا” مَثْلُ “حَرَّمْنَا” و “هم”، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و “لكنْ” حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ. و “كَانُوا” فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَفعِ اسْمُ “كان”، والأَلِفُ فارقةٌ. و “أَنْفُسَهُمْ” مَفْعُولٌ بِهِ لِمَا بَعْدَهُ مَنْصوبٌ مُضافٌ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ وَ “يَظْلِمُونَ” فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ، والجملةُ خَبَرُ “كَانُوا” في مَحَلِّ النَّصْبِ. والجُمْلَةُ الاسْتِدْراكِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلةِ قَوْلِهِ: “وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ” عَلى كَوْنِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.

الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم


نأليف: عبد القادر الأسود

الجزء: 18

المُجَلَّد: 36

سورةُ الفُرقان الآية 7

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا

(7)

قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقَالُوا} الْقائِلُونَ هُمْ كُفَّارُ قُريشٍ الْمُشْرِكُونَ باللهِ ـ تَعَالى، الْمُمْعِنُونَ فِي الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ وَالتَّكْذِيِبِ لِسَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، والْأَذَى للمُؤمنِنَ.

قولُهُ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} فِرْيَةٌ أُخْرَى جَاؤُوا بِهَا وهِي ادِّعَاءُ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ أَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ الطَّعامَ كَمَا يَأْكُلُ النَّاسُ، وَيَشْرَبُ الماءَ كَمَا يَشْرَبُونَ، وَيَرْتَدِي ما يَسْتُرُ جَسَدَهُ.

قوْلُهُ: {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} وَيَتَجَوَّلُ فِي الْأَسْوَاقِ طَلَبًا لِلتَّكَسُّبِ والتِجَارَةِ، فهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِيِادِ الْأَسْوَاقِ، لِيَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَحْصُلَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرابِهِ وكِسَائِهِ وَقَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إِلَّا مَلَكًا لَا يَحْتَاجُ لِلطَّعَامِ والشَّرَابِ وَالْكِسَاءَ وغيرِ ذَلِكَ، وَلَا لِلْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ طَلَبًا لِحَاجَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقًّا لَوَجَبَ أَنْ يَكونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا يَحْتاجُهُ الْبَشَرُ. فَكَيْفَ يُرِيدُنَا أَنْ نَصَدِّقَهُ فِيما يَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟

قولُهُ: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} وَهَلَّا أَنْزَلَ اللهُ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ، فَيَكُونَ شَاهِدًا لَهُ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟

وَهَذا كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} الآيةَ: (9)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ يوسُفَ ـ علَيْهِ السَّلامُ: {أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية: (109)، أَيْ وَلَمْ نَجْعَلْهُمْ مَلَائِكَةً، لِأَنَّ كَوْنَهُمْ رِجَالًا وَكَوْنَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَلَائِكَةً، وَقَوْلُهُ مِنْ سورةِ الرَّعدِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} الآيةَ: (38)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ إبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآيةَ: (10)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الإِسْراءِ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} الآيةَ: (94)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ المُؤْمِنونَ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} الآيتَانِ: (33 و: 34)، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 47، منها: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} وَقَوْلُهُ في الآيةِ: (24) مِنْ سورةِ القَمَرِ: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ}، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: (6) منْ سورةِ التَّغابُنِ: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ}. وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِهَا فِي دَعْوَاهُمْ هَذِهِ الْبَاطِلَةِ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الرُّسُلَ يَأْكُلُونَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُولَدُ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبَشَرِ، إِلَّا أَنَّهُ فَضَّلَهُمْ بِوَحْيِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ لِلْبَشَرِ مَلَكًا لَجَعَلَهُ رَجُلًا، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (20) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ: إِنَّهُ بَشَرٌ، وَإِنَّهُ رَسُولٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ لَا تُنَافِي الرِّسَالَةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الإِسْراءِ: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} الآيةَ: (93)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الكَهْفِ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الآيةَ: (110)، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: (6) مِنْ سورةِ فُصِّلتْ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه}.

وَقد بَيَّنَ ـ جَلَّ جَلَالُهُ، أَنَّ الرُّسُلَ قَالُوا مِثْلَ هذَا وَذلِكَ فِي الآيةِ: (11) منْ سورةِ إِبْراهيمَ ـ علَيْهِ السَّلامُ، فقَالَ: {قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الْآيَةَ: (11)، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} الآيةَ: (95).

قولُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} الْوَاوُ: لِلْعَطْفِ أَوْ للاسْتِئْنافِ، وَ “قَالُوا” فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وَواوُ الجماعِةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارِقَةٌ، والجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مِنَ الآيَةِ: (4) السَّابقَةِ عَلَى كَوْنِهَا جملةً مُسْتَأْنَفَةً، وَيجوزُ أنْ تكونَ الواوُ هنا للاسْتِئْنافِ فتكونُ هَذِهِ الجُملةُ مُسْتَأْنَفَةً مَسٌوقَةً لِبَيَانِ قَبَائِحِ الكَفَرَةِ، وافْتِراءاتِهم الَّتِي افْتَرَوْهَا عَلَى سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهي في الحالينِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.

قولُهُ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} مَا: اسْمُ اسْتِفْهامٍ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ الْمُتَضِمِنِ الإِنْكارَ، وهو مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و “لِهَذَا” اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ، وَالْهاءُ: للتَّنْبيهِ، وَ “ذا” اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. و “الرَّسُولِ” مجرورٌ على البَدَلِ مِنِ اسْمِ الْإِشارَةِ، وَالتَّقْديرُ: أَيُّ شَيْءٍ ثَابِتٍ لِهَذَا الرَّسُولِ. وهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ “قَالُوا”. وقَدْ جاءَتِ اللَّامُ الجارَّةُ مِنْ “مَا لِ هَذا” مَفْصُولَةً عَنْ مجرورِها “هَذَا” فِي الْمُصْحَفِ، خَارِجَةً عَنْ أَوْضَاعِ الْخَطِّ الْعَرَبِي، وَخَطُّ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ لَا تُغَيَّرُ كما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.

قولُهُ: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} يَأْكُلُ: فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى “الرَّسُولِ” صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وَ “الطَّعَامَ” مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحالِ مِنِ اسْمِ الْإِشارَةِ “ذا”، وَالْعَامِلُ فِي هَذا الْحاِل هُوَ الِاسْتِقْرَارُ العامِلُ فِي الْجَارِّ، أَوِ الْجَارُّ نَفْسُهُ.

قوْلُهُ: {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} الوَاوُ: لِلْعَطْفِ، وَ “يَمْشِي” فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرَةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ. وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى “الرَّسُولِ” صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. و “فِي” حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “يَمْشِي”. و “الْأَسْوَاقِ” مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ “يَأْكُلُ”، على كونِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحالِ مِنِ اسْمِ الْإِشارَةِ “ذا”.

قَوْلُهُ: {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} لَوْلَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى “هَلَّا”. و “أُنْزِلَ” فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ مَبْنيٌّ للمجهولِ، مَبْنِيٌّ على الفتْحِ. و “إِلَيْهِ” إلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “أُنْزِلَ”، والهاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و “مَلَكٌ” نَائِبٌ عَنْ فَاعِلِهِ مَرْفوعٌ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها مَقُولَ الْقَوْلِ لِـ “قَالُوا”.

قولُهُ: {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّسَبُّبِ. و “يَكُونَ” فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ، مَنْصُوبٌ بِـ “أَنْ” مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا، بَعْدَ الْفَاءِ السَّبَبِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ التَّحْضِيضِ. واسْمُ “كانَ” ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى مَلِكِ. و “مَعَهُ” منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الِاعْتِبارِيَّةِ، متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ “نَذِيرًا”، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ في محَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. و “نَذِيرًا” خَبَرُ “يَكونَ”. والْجُمْلَةُ مِنْ كان واسْمِها وَخَبَرِهَا صِلَةُ “أَنْ” الْمُضْمَرَةِ، فليسَ لها مَحَلٌّ من الإِعْراب. و “أَنْ” مَعَ صِلَتِهَا، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطٌوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ، مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، مِنْ غَيْرِ سَابِكٍ لِإصْلاحِ المْعْنَى، والتَّقْديرُ: هَلَّا يَكُنْ إِنْزَالُ مَلَكٍ إِلَيْه فَكَونُهُ نًذيرًا مَعَهُ.

الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيمنأليف: عبد القادر الأسودالجزء: 18المُجَلَّد: 36سورةُ الفُرقان الآية:6


قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا

(6)

قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي} لَقَّنَ اللَّهُ ـ تعالى، رَسُولَهُ الكَريمَ سيِّدِنا مُحَمَّدًا ـ صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ، الْجَوَابَ عَلَى بُهْتَانِ الكافِرينَ والرَّدَّ عَلَى افتِراءِ الْقَائِلِينَ بِأَنْ هَذَا الْقُرْآنَ ما هوَ إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بأَنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ وجَلَّتْ صِفاتُهُ، هُوَ الَّذي أَنْزَلَ هَذَا القُرآنَ الفُرْقانَ عَلَيْهِ.

قولُهُ: {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: يَعْلَمُ كُلَّ سِرٍّ خَفِيٍّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِدَليلِ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عِلْمِ الغَيْبِ، وذَكَرَ أَحْداثًا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَعْلَمَهَا إِلَّا مَنْ عَلَّمَهُ اللهُ إيَّاهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذي عَلَّمَ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، هُوَ ربُّهُ وخالِقُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَنَّ الَّذي أَنْزلَ عَلَيْهِ هَذا الْكِتَابَ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ الَّذي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَميعِ الْمَعْلوماتِ، جَلِيِّها وخَفِيِّها، وَذَلِكَ إِيذَانَا بِأَنَّ مَا أَنْزَلَهُ في الْكِتابِ علَى رَسُولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مِنْ أَسْرارٍ، هوَ مَطْوِيٌّ عَنْ عُقُولِ الْبَشَرِ.

فَالَّذي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى، لِأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَلِّمٍ. وَلَوْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ لَمَا زَادَ عَلَى مافي كُتُبِهِم، وَقَدْ جَاءَ بِفُنُونٍ تَخْرُجُ عَنْهَا، فَكيْفَ يكونُ مَأْخُوذًا مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَتَمَكَّنَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُ أَيْضًا، كَمَا تَمَكَّنَ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلَّا عَارَضُوهُ؟ وَقد ذَكَرَ “السِّرَّ” دُونَ الْجَهْرِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ السِّرَّ فَهُوَ بالْجَهْرِ أَعْلَمُ. وإِذًا فَقد بَطَلَ اعْتِرَاضُهُمْ علَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

قَوَلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَلِأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَقَدْ أَمْهَلَهُمْ، إِفْسَاحًا لهمْ في الْمَجالِ، لَعَلَّهُمْ رَاجِعونَ إِلَى رُشْدِهِمْ، تَائِبُونَ إِلى رَبِّهِمْ، وَبِرَسُولِهِ والْكِتَابِ الَّذي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مُؤْمِنُونَ، كَمَا أَرسَلَ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلًا آخَرينَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتبًا أُخْرَى، وَحَمَّلَهُمْ رَسَائلَ إِلَى أَقْوَامِهِمْ.  

قولُهُ تَعالى: {قُلْ} فعلُ أمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وقدْ حُذِفتِ الألِفُ مِنْ وَسَطِهِ لالْتِقاءِ السَّاكنينِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَ لها مِنَ الإِعْرابِ

قولُهُ: {أَنْزَلَهُ الَّذِي} أَنْزَلَهُ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الفتْحِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الْمَفْعٌولِيَّةِ. و “الَّذِي” ايْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ “قُلْ”.

قولُهُ: {يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَعْلَمُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ العائدِ بدورهِ على اللهِ ـ تَعَالَى. و “السِّرَّ” مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و “فِي” حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ “السِّرَّ”، و “السَّمَاوَاتِ” مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ “وَالْأَرْضِ” الواوُ: للعَطْفِ، و “الْأَرْضِ” مَعْطُوفٌ عَلَى “السَّمَاوَاتِ” مجرورٌ مِثْلُهُ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الِاسْمِ الْمَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.

قَوْلُهُ: {إِنَّهُ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتَّأَكِيدِ، والهاءِ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ النَّصْبِ، اسْمُهُ. وخبرُهُ جملةُ “كَانَ”، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ “أَنَّ” مَعَ اسْمها وَخَبَرِهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا فَلَيْسَ لها مَحَلَّ مِنَ الإعراب.

قولُهُ: {كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} كَانَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَاسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و “غَفُورًا” خَبَرُها الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بِها. و “رَحِيمًا” خَبَرُها الثَّانِيِ منصوبٌ بها أَيْضًا، والجُمْلَةُ مِنْ “كَانَ” واسْمِها وخبرِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ “إِنَّ”.

الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم


نأليف: عبد القادر الأسود

الجزء: 18

المُجَلَّد: 36

سورةُ الفُرقان

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا

(4)

قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْمُرَادُ بِـالاسْمِ الْمَوْصُولِ “الَّذينَ”، هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ؛ الْمُعَانِدُونَ، الْمُعَادُونَ للهِ وَرَسُولِهِ، الْمُسْتَكْبِرونَ عَلَى الْحَقِّ. وَوُضِعَ الاسْمُ الْمَوْصُولُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ لِتوجيهِ الذَّمِّ لَهُمْ بِمَا يكونُ فِي حَيِّزِ الصِّلَّةِ إِيذَانًا بِأَنَّ مَا تَفَوَّهُوا بِهِ هو وَصْفٌ ذَمِيمٌ لِكُفْرِهِمْ باللهِ العَظِيمْ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: “وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّيِعُونَ”، قالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ دَارِ النَّدْوَةِ.

وَقَالَ الْكَلْبيُّ وَمُقَاتِلٌ: القائلُ لِمَا سيَأْتي في الآيةِ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحارِثِ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَمَعَهُ طُغاتُ قُرَيْشٍ وَغُلَاتُهاُ فِي الْكُفْرِ، كَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أُميَّةَ، وَنَوْفَلِ بُنِ خُوَيْلِدٍ، وَمَنْ ضامَّهمْ وَأَيَّدَهُمْ وَقَالَ بِقَوْلِهِم. وَقد جِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ مِنْ قولِهِ: “كَفَرُوا” لِيَشْمَلَ كُلَّ مَنْ شَايَعَهُ ووافَقَهُ.

وهَذَا كما تَرَى شُرُوعٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، فِي حِكَايَةِ أَبَاطِيلِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفُرْقانِ وَمَنْ نُزِّلَ عَلَيْهِ مَعًا، لتفنيدِها والرَّدِعليْها وَإِبْطَالِهَا.

قَوْلُهُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} إِنْ: بِمَعْنَى (مَا) النَّافِيَةِ، وَهِيَ مَعَ “إِلَّا” تُفِيدُ الْحَصْرَ. وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا اسْمَ الْإِشارَةِ “هَذَا” لِلْحَطِّ مِنْ قَدْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْفُرْقانُ. وَ “الْإِفْكُ” هُوَ أَشْنَعُ الكَذِبِ لأَنَّهُ ـ بِرَأْيِهِمْ، مَكْذُوبٌ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى جَدُّهُ. وَ “افْتَرَاهُ” أَيْ: اخْتَلَقَهُ، وأَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وادَّعَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ. يُريدونَ أَنَّ النَّبيَّ ـ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، رَكَّبَهُ وَرَتَّبَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى رَبِّهِ ـ جَلَّ وعَزَّ، لَيْسَ إِلَّا. وَقْدْ رَدَّ القرآنُ الكريمُ هَذِهِ الفريَةَ الشَّنِيعَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ الكَفَرَةِ وأشْباهِهِمْ في غيرِ مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ الكريمِ، فقالَ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآيةَ: (38)، وقالَ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} الآيَةَ: (35)، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} الآيةَ: (3)، وقالَ مِنْ سُورَةِ الأحقاف: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآيةَ: (8)، وَقالَ فِي الآيَاتِ: (44 ـ 46) مِنْ سُورَةِ الحاقةِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}. إلى آخِرِ ما هُنالِكَ.

قوْلُهُ: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أَيْ: وَأَعَانَهُ عَلَى اخْتِلَاقِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. يَعْنُونَ بالقَوْمِ الآخَرِينَ أَهْلَ الْكِتَابِ اليَّهُودَ وَالنَّصَارَى، وَذلكَ بِأَنْ يُحَدِّثُوهُ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ الغابِرَةِ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الأمَمِ بِعِبَاراتِهِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَعْنُونَ الْيَهُودَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَشَارُوا إِلَى عَدَّاسٍ مَوْلَى حُوَيْطِبٍ، وَيَسارٍ غُلَامِ عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَجَبْرٍ مَوْلًى لِعَامِرٍ أَيْضًا، وَكَانَ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.وَقِيلَ: هُمَا جَبْرٌ وَيَسَارٌ، كانَا يَصْنَعَانِ السُّيوَفَ بِمَكَّةَ، وَكانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجيلَ. وقيلَ: هُوَ عَابْسٌ.

قولُهُ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} قَدْ: للتَّحقيقِ، وَ “جاؤوا”: أَتَوْا” والظُّلْمُ: التَّعَدِّي عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، والزُّورُ: الكَذِبُ.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ ـ رَحِمَهُ اللهُ، ما مَعْنَاهُ: الْمَعْنَى: فَقَدْ جَاؤُوا بِظُلْمٍ وَزُورٍ، فَالْفِعْلُ: “جَاءَ” كَالْفِعْلِ “أَتَى” يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى “فَعَل”، وَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: “بِظُلْمٍ وزورٍ”. فَإنَّهُ لَمَّا سَقَطَتِ الْباءُ أَفْضَى الْفِعْلُ إلَى الْمَفْعُولِ فَنَصَبَهُ. وَالزُّورُ: الْكَذِبُ.

وَالتَّنْوينُ في “ظُلْمًا وزورًا” هُوَ لِلتَّفْخِيمِ، أَيْ: جَاؤوا بِمَا قَالُوا ظُلْمًا هَائِلًا وَعَظِيمًا لَا يُقادَرُ قَدْرُهُ. ذَلِكَ لأنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَقَّ الواضِحَ الصُّراحَ إِفْكًا مُفْتَرًى.

قوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ} الواوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، وَ “قَالَ” فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. وَ “الَّذِينَ” اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِحِكَايَةِ أَبَاطِيلِهِمْ وتَفْنِيدِ دَعَاوَاهُمْ، فيما يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَزَّلِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مَعًا، وَإِبْطَالِهَا.

قولُهُ: {كَفَرُوا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الْجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريق، والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعرابِ.

قوْلُهُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} إِنْ: نَافِيَةٌ بمعنى “ما”. و “هَذَا” الهاءُ: للتَّنْبِيهِ، و “ذا” اسمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و “إِلّا” أَدَاةٌ للحَصْرِ. و “إِفْكٌ” خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ ب: “قالَ”.

قولُهُ: {افْتَرَاهُ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الفتْحِ الْمُقَدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الْأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفعولِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ “إِفْكٌ”.

قولُهُ: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} الوَاوُ: للعطفِ، و “أَعَانَهُ” فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمفعوليَّةِ. و “عَلَيْهِ” عَلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “أَعانَ”، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرفِ الجَرِّ. وَ “قَوْمٌ” فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و “آخَرُونَ” صِفَةٌ لِـ “قَوْمٌ” مرفوعٌ مِثلُهُ، وعلامةُ الرَّفعِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذَكَّر السَّالمُ. وَالْجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ في مَحلِّ الرَّفْعِ، عَطْفًا عَلى جُملةِ “افْتَرَاهُ”. قولُهُ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْريعٍ، لأنَّ ما قبلَها عِلَّةٌ لِمِا بَعْدَهَا. و “قد” حَرْفُ تَحْقِيقٍ. وَ”جَاؤُوا” فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الْجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريق، “وَجَاءَ” هُنَا، بِمَعْنَى “فَعَلَ”، ولذلكَ فقد تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ واحِدٍ. و “ظُلْمًا” مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ “زُورًا” مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ منصوبٌ مِثْلُهُ. والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ “قالَ” عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. لكونِها جملةً مُفَرَّعَةً عليْها.

الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم


نأليف: عبد القادر الأسود

الجزء: 18

المُجَلَّد: 36

سورةُ الفُرقانِ

الآية: 3

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا

(3)

قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} يَعودُ هَذَا الضَّمِيرُ (واوُ الجماعةِ) لِلْكُفَّارِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ، وَيشْمَلُ كُلُّ مَنِ ادَّعَى إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ، لِأَنَّ “اتَّخَذُوا” جَمْعٌ، وَ “آلِهَةً” جَمْعٌ، وَإِذَا قُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ تَقَابَلَ الْفَرْدُ بِالْفَرْدِ أَيْضًا. أَمَّا هَاءُ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ “مِنْ دُونِهِ” فَإِنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْحَقِّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى.

فَالمَقصودُ بِهَذا الخبَرِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَال ِهؤلاءِ اللمُشْرِكينَ كَيْفَ قَابَلُوا بِالْجُحودِ وَالطُّغْيَانِ نِعْمَةَ إِنْزَالِ اللهِ ـ تَعَالَى، الْفُرْقَانَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِمَا فِيهِ نَفْعُهُم وفلاحُهُمْ، وَكَيْفَ أَشْرَكُوا بِاللهِ مَوْلَاهُمْ ـ الَّذِي تِلْكَ صِفَاتُهُ، آلِهَةً أُخْرَى صِفَاتُهُمْ عَلَى النَّقيضِ مِنْ صِفَاتِ مَنْ أَشْرَكُوهُمْ معَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً أَمْرٌ مَعْلُومٌ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ الْمَقْصَودُ بِهذهِ الْجُمْلَةِ الْإخْبَارَ غنهم وَعَنْ حالهم.

قولُهُ: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أَيْ: لَا يَقْدِرُوْنَ عَلَى التَّقْديرِ والنَّفعِ والضَّرَرِ، كَمَا بَيَّناهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، مِنْ أَنَّ “خَلَقَ” يَأْتِي فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى “قَدَّرَ”. أَمَّا “خلَقَ” بمعنى أَوْجَدَ مِنَ الْعَدَمِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ فَلَمْ يُوْصَفْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُ الْبَارئِ الْمُصَوِّرِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، ولَمْ يقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَلَا ادَّعَاهُ أَحَدٌ.

وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ في “يَخْلُقونَ” يَعُودُ إلى مَا اتُّخِذَ آلِهَةً مِنْ دونِ اللهِ، وهوَ صِفَةٌ لَها. وَقَدْ غُلِّبَ الْعُقَلَاءَ عَلَى غَيْرَهِمْ في هذا اللَّفْظِ حِينَ جِيءَ بِالْوَاوِ ـ الَّذي هُوَ ضَمِيرٌ لِجَمَاعَةِ العُقَلاءِ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْبُدونَ الْعُقَلَاءَ كَ “عُزَيْرٍ”، وَ “الْمَسِيحِ” ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، كَمَا عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَالْكَوَاكِبُ كَ “الشَّمْسِ”، وَالنَّارُ الَّتِي عَبَدَها الْمَجُوسُ، وَالْأَصْنَامُ، وَغَيْرُ ذَلِكِ مِنَ الْمُتَعَاظِمِينَ وَالْمُتَسَلِّطِينَ، ومَنِ ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ مِنَ البَشَرِ، وَكُلِّ مَنْ أُطِيعَ مِنْهُمْ في مَعْصِيَةِ اللهِ ـ جَلَّ وعَلَا.

قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} الضُّرُّ ـ بِفَتْحِ الضَّادِ، مَصْدَرُ ضَرَّ فلانٌ فُلانًا أَو ضَرَّهُ الشَّيءُ: إِذَا أَصَابَهُ بِمَكْرُوهٍ. وَكَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: (49) مِنْ سورةِ يونُسَ ـ عليهِ السَّلامُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}. فإنَّ هَؤُلَاءِ جِميعًا ـ سَوَاءٌ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمُ التَّقْديرَ والتغييرَ، وَالتَّسَلُّطَ والتَّصَرُّفِ النَّفعَ والضَّرَرِ، مِنْ نَفْسِهِ وبإِرادتهِ، وَمَنْ لَمْ يدَّعِهِ، عَاجِزونَ عَنْ امْتِلَاكِ المقدِرَةِ علَيْهِ فيما يخُصُّ أنْفُسَهُمْ، فَضْلًا عَنِ التَّحَكُّمِ بِذَلِكَ فيما يخُصُّ غيرَهمْ.

وَقد جَرَى قولُهُ هَهُنَا: “ضَرًّا وَلا نَفْعًا” مَجْرَى الْمَثَلِ كَمَا تَقولُ: “شَرْقًا وَغَرْبًا”، وَ “لَيْلًا وَنَهَارًا”، وَذَلِكَ لِلْإِحَاطَةِ بِجَميعِ الْأَحْوَالِ، فَكَأَنَّما قِيلَ: لَا يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. 

قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} ولا يَسْتَطِيعُونَ وليسَ بِيَدِهِمْ أَنْ يُمِيتُوا أَحَدًا لَمْ يقضِ اللهُ بِمَوْتِهِ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أَوْ يَرُدُّوا الْحَياةَ لِمَنْ قَضَى اللهُ بِمَوْتِهِ، بَدَلِيلِ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ رَغْمَ أُنُوفِهِمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِبْعَادَ الْمَوْتِ عَنْهُمْ أَوْ مَنْحَ أَنْفُسِهِمُ الْحَيَاةَ، وَيَمْرَضُونَ كَمَا يَمْرَضُ غَيْرُهُمْ، وتُسَلَّطُ عَلَيْهمُ الشُّرورُ والأَوْبِئَةُ والْمَصائِبُ والْأَسْقَامُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَها وَلَا شَيئًا مِنْهَا عَنْ أَنفُسِهِمْ.

قوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} الوَاوُ: للاستِئناف، و “اتَّخَذُوا” فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والأَلفُ للتَّفريقِ. وَهَذا الضَّمِيرُ عائدٌ عَلَى المُشْركينَ الَّذينَ يَضُمُّهُمْ لَفْظُ {الْعَالَمِينَ}، وَيَجوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ للهِ شَريكًا وَوَلَدًا بِدِلَاَلةِ قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ}، كَما يَجوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمُنْذَرَينَ بِدَلَالَةِ {نذيرًا} عَلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَ “مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعِلِّقٌ بِالْمَفُعُولِ الثانِي لِـ “اتَّخَذُوا”، وَ “دُونِهِ” دونِ: مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الْجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و “آلِهَةً” مَفْعُولُهُ الأَوَلُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكونَ مِنْ عِبَادِةِ الْأَصْنَامِ.

قولُهُ: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا} لَا: نافيَةٌ لا عمَلَ لها، و “يَخْلُقُونَ” فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجرُّدِهِ عِنِ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ نَصْبِهِ ثبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و “شَيْئًا” مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها صِفَةً أُولَى لِـ “آلِهَةً”.

قولُهُ: {وَهُمْ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ “هُمْ” ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ وَخبرُهُ جُمْلَةُ “يُخْلَقُونَ”. وهذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: “لَا يَخْلُقُونَ” عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً ثانيَةً لِـ “آلِهَةً”.

قَوْلُهُ: {يُخْلَقُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغةِ، مَبْنِيٌّ للمَجهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامةُ نَصْبِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنيابةِ عَنْ فَاعِلِهِ. والْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ مَخْلُوقينَ أَنَّ الْعابِدِينَ لهم يَنْحَتُونَهُمْ وَيُصَوِّرونَهُمْ، أَوْ أَنَّهم مِنْ جُمْلَةِ ما خَلَقهُ اللهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى.

قَوْلُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و “لَا” نافيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا، وَ “يَمْلِكُونَ” فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والْجازِمِ، وَعَلَاَمةُ نَصْبِهِ ثبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و “لِأَنْفُسِهِمْ” الَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “يَمْلِكُونَ”، وَ “أَنفُسِ” مَجْرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وَ “هم” ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. و “ضَرًّا” مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و “وَلَا” الواوُ: للعَطْفِ، وَ “لا” نافيَةٌ لا عمَلَ لها. و “نَفْعًا” مَعْطوفٌ عَلَى “ضَرًّا” وَلَهُ مِثلُ إِعْرابِهِ. والجُمْلَةُ الفعلِبَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جملةِ “يُخْلَقُونَ” عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً ثَالِثَةً لِـ “آلِهةً”.

قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} الواوُ: للعَطْفِ، وَ “لا” نافيَةٌ لَا عمَلَ لَها. وَ “يَمْلِكُونَ” فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والْجازِمِ، وَعَلَاَمةُ نَصْبِهِ ثبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَوَاوُ الْجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و “مَوْتًا” مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِه. و “وَلَا” تقدَّمَ إعرابُهما، و “حَيَاةً” مَعْطُوفٌ عَلَى “مَوْتًا” ولهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. و “وَلَا نُشُورًا} كقولِهِ “ولا مَوْتًا” مَعْطُوفٌ على “ولا مَوتًا” ولهُ مِثلُ إِعْرابِهِ. والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ “يُخْلَقُونَ” عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً رَابِعَةً لِـ “آلِهَةً” في مَحَلِّ النَّصْبِ.

الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم


نأليف: عبد القادر الأسود

الجزء: 18

المُجَلَّد: 36

سورةُ الفُرقانِ

الآية:2

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ

وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا

(2)

قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هُوَ مُتَابَعَةٌ لِوَصْفِهِ ـ تَعَالَى، نَفْسَهُ المُقدَّسَةَ في الآيةِ الأُولَى، بِأَنَّهُ مَالِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فَيهِمَا.

وقَدْ جَاءَ التَّأْكيدَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غيرِ مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآية: (4)، مِنْ سُورَةِ الْفاتِحَةِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} الآيَةَ: (26)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيَةَ: (40)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الأَنْعَام: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} الْآيَةَ: (73)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} الآيةَ: (42)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الْآيَةَ: (13)، وَقَوْلِهِ في الآيَةِ: (16) مِنْهَا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ المُلْكِ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} الْآيَةَ: (1)، وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا ـ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ، فَإنَّ كلمةَ “الْمُلْكُ” فِيهَا شَامِلةٌ لِمُلْكِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا.  

قولُهُ: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} صِفَةٌ أُخْرَى بِأَنَّهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ وَجَلَّتْ صِفاتُهُ، مُسْتَغْنٍ عَنِ الْوَلَدِ فَالْتَكَاثُرُ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقاتِ، فَطَرَهَا اللهُ عَلَيْهَا لِتُحَافِظَ عَلَى اسْتِمْرارِ نَوعِها حَتَّى لَا يَنْقَطِعُ جِنْسُها بِمَوْتِها،أَمَّا اللهُ ـ تَعَالَى، فهو حَيٌّ دائمٌ بَاقٍ لَا يَمُوتُ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَلَدَ وَتَكَاثَرَ، لَجاءَ وَلَدُهُ مِنْ جِنْسِهِ، أَيْ: إِلَهٌ مِثْلُهُ فَنَازَعَهُ مُلْكَهُ وتَصَارَعَا وَتَضَارَبَتِ الأَوامِرُ والقوانينُ والتَّشْريعَاتُ فَأَفَسَدَا الْعَالَمْ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الْأَنْبِيَاءِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَ} الآيةَ: (22)، وَلَتَغَلَّبَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ فكانَ الْأَوَّلُ إِلَهً والآخَرُ مَأْلوهًا، قالَ ـ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} الآيةَ: (42)، مِنْ سُورةِ الْإِسْرَاءِ.

وَلِذَلِكَ فقَدْ جَاءَ وَصْفُهُ ـ سُبْحانَهُ، بأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الوَلَدِ والصَّاحِبَةِ، مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الكَريمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى، في الآيَةِ: (101) مِنْ سُورَةِ الأَنْعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}، وَكَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الإِسْراءِ: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} الآيةَ: (40)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الكَهْفِ: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} الآيتانِ: (4 و: 5)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ مريم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} الآياتِ: (88 ـ 93)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْمُؤْمنونَ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، إِلَى قَوْلِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} الآيةَ: (91)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الْجِنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} الْآيَةَ: (3)، وكَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الإِخْلَاصِ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الآيتانِ: (3 وَ: 4).

قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} فِي “الْمُلْكِ” إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُلْكِ يُنَافِي حَقِيقَةَ الْمُلْكِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهَا. وَقَالَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي آخِرِ سُورَةِ الإِسْراءِ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} الآيةَ: (111) وَقَالَ مِنْ سُورَةِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الآيةَ: (22)، وَقَالَ مِنْ سورةِ غافر: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الآيةَ: (16)، فَقَوْلُهُ: {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يَعْني تَفَرُّدَهُ بِالْمُلْكِ.

قولُهُ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} كَقَوْلِهِ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآيةَ: (102) مِنْ سورةِ الأنعام، وَقالَ مِنْ سورةِ غافر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآيةَ: (63). وَ “خَلَقَ”: أَحْدَثَ وَأَوْجَدَ. فإنَّ الْخَلْقُ هوَ الْإِيجَادُ مِنْ عَدَمٍ، أَيْ أَوْجَدَ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ عَظِيمِ الْأَشْيَاءِ وَكَبيرِهَا إَلَى صَغيرِها وَحَقِيرِهَا.

إِذًا فَالْخَلْقُ هُنَا هوَ الإِحْدَاثُ وَالتَّهْيِئَةُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ لِيَأْتِيَ قَوْلُهُ: “فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا” مُفيدًا؛ إِذْ لَوْ أَنَّنا حَمَلْنَا قولَهُ: “خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ” عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِي مِنَ التَّقْديرِ لَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ.

وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الكريمةُ ردٌّ عَلَى دَعْوَى الْمَجُوسُ وَغيْرِهِم بِأَنَّ الشَّيْطَانَ أَوِ الظُّلْمَةَ يَخْلُقُونَ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ. وَتردُّ قولَ مَنْ قَالَ بأنَّ لِلْمَخْلُوقِ قُدْرَةُ الْإِيجَادِ. فَالْآيَةُ رَدٌّ عَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ.

قوْلُهُ: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} تَفْرِيعٌ عَلَى قولِهِ “خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ” لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إِتْقَانِ الْخَلْقِ إِتْقَانًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. أَيْ: وَأَوْجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ فِي إِيجَادِهِ فكانَ في غايَةِ التَّمَامِ والكَمَالِ وَالْإِتْقانِ، وَلَمْ يُوجِدْهُ مُتَفَاوِتًا. ولذلكَ قالَ حِجَّةُ الإِسْلامِ، الْإِمَامُ الكامِلُ أَبُو حَامِدٍ الغزاليُّ ـ رحمَهُ اللهُ تَعَالَى ورَضِيَ عنْهُ وَأَرْضاهُ: (لَيْسَ في الإِمكانِ أَبْدَعَ مِمَّا كانَ)، لِأَنَّ الكامِلَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْكَمَالِ فِيَمَا يَصْنَعُ، فَالْكَامِلُ لَا يَصْدُرُ النَّقْصُ عَنْهُ وَلَوْ كانَ فِي إِمْكَانِهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، أَنْ يِصْنَعَ ما هوَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَلَمْ يَفْعَلْ، لَكَانَ في فِعْلِهِ نَقْصٌ، وَحَاشَا للهِ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ نَقْصٌ البتَّةَ، وتعالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كبيرًا.

وَمَعْنَى “قَدَّرَهُ” جَعَلَهُ عَلَى مِقْدَارٍ معلومٍ وَحَدٍّ مُعَيَّنٍ، لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَحيدُ عنْهُ، فلَيْسَتِ الْأُمُورُ فَوْضَى وَلَا مَجالَ فِيهَا للْمُصَادَفَةِ كَمَا يدَّعِيهِ الطبائعيُّنَ الْمَلَاحِدَةُ، والْمُقَدَّرُ، هُوَ الْمَضْبُوطُ المُحْكَمُ الصَّالِحُ لِمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا خَلَلَ. لِأَنَّهُ إنَّما خَلَقَهُ بِإِرَادَةٍ حَكِيمَةٍ وَعِلْمٍ لا حُدُودَ لِسَعَتِهِ، عَلَى كَيْفِيَّةٍ أَرَادَهَا وَشَكْلٍ عَيَّنَهُ، كَمَا بيَّنَ ذَلِكَ في الآيةِ: (8) مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ فقالَ: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}، ثمَّ أَكَّدَهُ في الآيَةِ: (17) مِنْهَا فَقَالَ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، وبقولِهِ في الآيةِ: (49) مِنْ سُورَةِ القَمَرِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ}. وَبِقَولِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْلى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} الآيَتَانِ: (2 ـ 3). وَقَدْ تَقَدَّمَ في تَفْسيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها قَوْلُ تَرْجُمانِ القُرْآنِ عبْدِ الله ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي تَفْسيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، أَنَّ الْمَعْنَى: بَيَّنَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ صَلَاحَهُ وَجَعَلَ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعَالَى: (تَقْدِيرُ الْأَشْيَاءِ هُوَ حَدُّهَا بِالْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمَانِ، وَالْمَقَادِيرِ، وَالْمَصْلَحَةِ، وَالْإِتْقَانِ). لأَنَّهُ لِحِكْمَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، لَا يُحْدِثُ شَيْئًا إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ دونَ خلَلٍ ولا تَفَاوِتٍ.

وَقِيلَ: خلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَجَعَلَ لَهُ غَايَةً وَمُنْتَهًى، وَمَعْنَاهُ: فَقَدَّرَهُ لِلْبَقَاءِ إِلَى أَجَلٍ محتومٍ، وَأَمَدٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ.

وَفي مَجِيءِ الْفِعْلِ “قَدَّرَ” مُؤكَّدًا بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ: “تَقْدِيرًا” دِلَالَةٌ واضِحَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ كَامِلٌ فِي النَّوْعِ وَالْتَّقَادِيرِ.

وقد أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، هَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ بِطَرِيقِ التَعْرِيفِ بالْمَوْصُولِ لِأَنَّ بَعْضَ الصِّلَاتِ لهذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُولَةِ كانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْمُشْركينَ الْمُخَاطَبِينَ اتِّصَافُ اللَّهِ بِهِ، وَهُمَا الصِّفَتَانِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةُ، إِذْ كَانَتَا مَعْلُومَتَيْنِ، وأَمَّا الصِّلَتَانِ الْثانيةُ والْثَالثَةُ الْمَذْكُورَتَانِ مَعَهُمَا فَقَدْ كانَتَا فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ، لِأَنَّهُمَا أُجْرِيَتَا عَلَى مَنْ عُرِفَ بِالصِّلَتَيْنِ الْأُولَى وَالرَّابِعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَمْتَرُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، إذْ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، أَخَبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهمْ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ حيثُ قَالَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، الْآيَتَانِ: (86 و 87)، وَلَكِنَّهُمْ كانُوا يَدَّعُونَ أَنَّ للهِ وَلَدًا وَأَنَّ لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلِكَ عُلُوًّا كَبيرًا.

وَمِنْ بَدِيعِ النَّظْمِ في هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ، أَنْ جُعِلَ الْوَصْفَانِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا مَعَ الْمُشركين مَتَوَسِّطَيْنِ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا مِرْيَةَ فِيهِمَا، حَتَّى يَكُونَ الْوَصْفَانِ الْمُسَلَّمَ بهما بمثابةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا، وَجُعِلتِ النَّتِيجَةُ آخِرًا، فَإِنَّ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلَا شَرِيكًا لِأَنَّ مُلْكَهُ الْعَظِيمَ يَقْتَضِي أَنْ يكونَ غِنَاهُ مُطْلَقًا، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهُ الوَلَدَ وَالشَرِيكَ أَنْ يكونَ عَبَثًا لَا غَايَةَ لَهُ، وَإِذَا كَانَتْ أَفْعَالُ الْعُقَلَاءِ مُصَانَةً عَنِ الْعَبَثِ، فَما بالُكَ بِأَفْعَالِ أَحْكَمِ الْحُكَمَاءِ، ـ تَعَالَى عنْ ذلكَ وَتَقَدَّسَ.

فَإِنَّ قَوْلَهُ ـ تَعَالى: “الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ” بَدَلٌ مِنْ قولِهِ في الآيةِ الأُولى: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. وَإِعَادَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ مِنَ الصِّلَتَيْنِ، لِأَنَّ الصِّلَةَ الْأُولَى فِي غَرَضِ الِامْتِنَانِ بِتَنْزِيلِ الْقُرْآنِ لِيكونَ ْهُدًى للناسِ، أَمَّا الصِّلَةَ الثَّانِيَةَ فَالْغَرَضُ منها اتِّصَافُهُ ـ تَعَالَى، بِالْوَحْدَانِيَّةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الَّذِي: اسمٌ مَوصولٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ بَدَلًا مِنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ مِنَ الآيةِ التي قبلَها، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْهُ، أَوْ هُوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أَوْ أَنَّهُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الْمَدْحِ، وَمَا بَعْدَ “نَزَّل” هُوَ مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَلَيْسَ أَجْنَبِيًا، فَلَا َيضُرُّ الْفَصْلُ بِهِ بَيْنَ الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ وَالثاني إِذَا جَعَلْنا الثاني تابعًا لَهُ. وَ “لَهُ” اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مَحْذوفٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و “مُلْكُ” مرفوعٌ بالابتِداءِ مُؤخَّرٌ، وهوَ مُضافٌ. وَ “السَّمَاوَاتِ” مَجْرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَ “وَالْأَرْضِ” الوَاوُ: حَرْفٌ لِلْعَطْفِ، و “الْأَرْضِ” مَعْطُوفٌ عَلَى “السَّمَاواتِ” فهوَ مَجْرُورٌ مِثْلُهُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هي صِلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ “الذي” فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.

قولُهُ: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الواوُ: للعَطْفِ، و “لَمْ” حرفُ نفيٍ وقلْبٍ وَجَزْمٍ. و “يتَّخِذْ” فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بها. وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ، و “وَلَدًا” مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ السَّابقةِ.

قولُهُ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ. و “لَمْ” حَرْفُ نفيٍ وقلْبٍ وَجَزْمٍ. و “يَكُنْ” فِعْلٌ مُضارِعٌ نَاِقصٌ مَجْزومٌ بِـ “لَمْ”، وقدْ حُذِفَ الواوُ مِنْ (يكون) لالتقاءِ السَّاكنَيْنِ. و “لَهُ” اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مَحْذوفٍ لِـ “يكن”، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ “شَرِيكٌ” اسْمُها الْمُؤَخَّرُ مَرفوعٌ بها. وَ “فِي” حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “شَرِيكٌ”، و “الْمُلْكِ” مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ “كانَ” واسمِها وخَبَرِها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ السَّابقةِ أَيْضًا.

قولُهُ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} الوَاوُ: للعطْفِ، و “خَلَقَ” فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ. وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ أَيْضًا، وَ “كُلَّ” مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، مُضافٌ. وَ “شَيْءٍ” مجرورٌ بالإِضَافَةِ إلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الصِّلَةِ أَيْضًا فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ. وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ لِمَا قَبْلَهَا.

قولُهُ: {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الفاءُ: للعَطْفِ. و “قدَّرَهُ” فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ. وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ الْمَوْصُولِ أَيْضًا، وَالهاءُ: ضميرٌ نُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ. و “تَقْدِيرًا” منْصوبٌ على الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةَ “خَلَقَ” السابقةِ لها فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا

(1)

قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} يُخْبِرُ اللَّهُ ـ تعالى، عَنْ عَظَمَتهِ تَعْلِيمًا لَنَا وَإِيقَاظًا لِهِمَمِنَا في التَّعَرُّفِ عَلَى كَمَالَاتِهِ، وَيُثْني عَلَى الحَّقُّ عَلى نَفْسِهِ المُقدَّسَةِ لِنَتَعَلَّمَ كَيفَ نُسَبِّحُهُ ونُثْني عَلَيْهِ، وَيَحْمَدُ ذاتَهُ الْعلِيَّةَ عَلَى مَا نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لِنَتَعَلَّمَ حَمْدَهُ عَلَى ذَلِكَ، كمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الإِسْرَاءِ: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الحرامِ إلى المَسْجِدِ الْأَقْصَى} الآيةَ: (1)، وَكَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لهمْ أجْرًا حَسَنًا} الآيتانِ: (1 و 2)،

وَقَدْ عَرَفَ الْعَرَبُ إِنْشَاءِ التَّعَجُّبِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَقَامِ الْعَظَمَةِ وَالْفَخْرِ، وَالْحَديثَ عَنْ غَرائِبَ ظَهَرَتْ، كَما قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ………………… فِيَا عَجَبًا مِنْ كَوْرِهَا الْمُتَحَمِّلِ

فقد تَعَجَّبَ الشَّاعِرُ في هَذا الْبَيْتِ كيف أَنَّهُ جَعْلَ كَوْرَ نَاقَتِهِ يَحْمِلُهُ بَعْدَ أَنْ عَقَرَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفِنْدِ الزِّمَّانِيِّ:

أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ ……………………………………….. كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالِي

يُرِيدُ طَعْنَةً طَعَنَهَا قِرْنَهُ.

وَ “تَبَارَكَ” هِيَ صِيغَةُ مُبالَغَةٍ مِنَ “الْبَرَكَةِ” عَلَى وَزْنِ “تَفَاعَلَ”، مِنَ الْبَرَكَةِ الَّتي هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيادَةُ وَكَثْرَةُ الْخَيْراتِ وَدَوَامُهَا، سَوَاءً أَكَانَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ في الْمَجَالِ الْحِسِّيِّ أَوِ في الْمَجَالِ الْمَعْنَوِيِّ، بِاعْتِبَارِ مَا يُفِيضُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَخْلُوقاتِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، لَا سيَّما ما يَجودُ بِهِ عَلَى الإِنْسَانِ. قالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: “تَبَارَكَ”: تَفَاعَلَ، مِنَ الْبَرَكَةِ. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تَفْسِيرِهِ: (6/69)، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: (10/246): وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. وقالَهُ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ أَيْضًا. وانظُرْ تهذيبَ اللغةِ: (1/319).

وَقد رُوِيَ عَنِ الإمامِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: “تَبَارَكَ”: تَقَدَّسَ.

وَقَالَ الإِمامُ الرَّازِيُّ: وَأَصْلُ التَّبَارُكِ مِنَ التَّبَرُّكِ، وَهُوَ الدَّوَامُ وَالثَّبَاتُ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْبَعِيرُ وَبِرْكَةُ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَكُونُ دَائِمًا، وَالْمَعْنَى: دَامَ اسْمُهُ وَثَبَتَ أَوْ دَامَ الْخَيْرُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَا وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ.

وَنِسْبَةُ الْبَرَكةِ إِليْهِ ـ تَعَالَى، إِنَّما هِيَ باعْتِبَارِ تَعَالِيهِ عَنْ كلِّ مَا سِوَاهُ، بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الأَفعالِ الْعَظِيمَةِ الحكيمةِ تَنْزيلُهُ هَذا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ، عَلَى عبدِهِ ورَسولِهِ محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَلَا وَهُوَ القُرْآنُ الْكَريمُ العظيمُ الْمُتَضَمِّنُ جَميعَ الْخَيْراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، وَالَّذي يَنْطِقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَسُمُوِّ صِفَاتِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ أَفْعَالَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنِيَّةٌ عَلَى الحِكَمَةِ وَمَا فِيهِ مَصَالِحُ خَلْقِهِ، لَا يَشُوبُ ذَلِكَ شَائِبَةٌ الْبَتَّةَ. وَهَذَا التَّأْويلُ هُوَ الْأَلْيَقُ بِسُمُوِّ مَقَامِ جَنَابِهِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِيمُ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: “تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ” قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ فِيهِ حَلَالُ اللهِ وَحَرَامُهُ وَشَرائِعُهُ وَدِينُهُ، فَرَقَ اللهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ “لِيَكُون للْعَالَمِينَ نَذيرًا” قَالَ: بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَذِيرًا مِنَ اللهِ لِيُنْذِرَ النَّاسَ بَأْسَ اللهِ، وَوَقَائِعَهُ بِمَنْ خَلَا قَبْلَكُمْ، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا} قَالَ: بَيَّنَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ صَلَاحَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.

وَيَجُوزُ أنْ تَكونَ هَذِهِ الصِّيغةُ لِإِفادَةِ نَمَاءِ تِلْكَ الْخيْراتِ وَتَزايُدِها شَيْئًا فَشَيْئًا، وآنًا فَآنًا، بِحَسَبِ حُدُوثِهَا، أَوْ حُدوثِ مُتَعَلَّقاتِها. وَلِاسْتِقَلَالِها ِبالدَّلَالَةِ عَلَى غَايَةِ الْكَمَالِ وَتَحَقُّقِها بالْفِعْلِ وَالْإِشْعارِ بِالتَّعَجُّبِ الْمُنَاسِبِ لِلْإِنْشاءِ والْإِنْبَاءِ عَنْ نِهَايَةِ التَّعْظيمِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَلَا اسْتِعْمَالُ غَيْرِها مِنَ الصِّيَغِ فِي حَقِّ اللهِ ـ تَعَالى.

وَهَذا اسْتِفْتَاحٌ بَدِيعٌ لِنُدْرَةِ أَمْثَالِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ فَإِنَّ غَالِبَ فَوَاتِحِهِمْ أَنْ تَكُونَ بِالْأَسْمَاءِ مُجَرَّدَةً أَوْ مُقْتَرِنَةً بِحَرْفٍ غَيْرِ مُنْفَصِلٍ، كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:

لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ …………………. تَلُوحُ كَباثي الوشْمِ في ظاهِرِ اليَدِ  

أَوْ بِأَفْعَالِ الْمُضَارَعَةِ وَنَحْوِهَا كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ ………… بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

أَوْ بإخبارٍ فيه تعجيبٌ وَإِدهاشٌ ومُفاجَأَةٌ، وَمِنْ هَذا القَبِيلِ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِيِّ البكْرِيِّ الوائليِّ:

آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ………………………………. رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

وَقَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبيانِيِّ:

كَتَمْتُكَ لَيْلًا بِالْجَمُومَيْنِ سَاهِرًا ………………….. وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنًّا وَظَاهِرَا

وَبِهَذِهِ النُّدْرَةِ يَكُونُ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَرَاعَةُ الْمَطْلَعِ لِأَنَّ النُّدْرَةَ مِنْ الْعِزَّةِ، وَالْعِزَّةُ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَلْفَاظِ وَضِدُّهَا الِابْتِذَالُ.

وَقَدْ تَكونُ النُّدْرَةُ بِالبَدْءِ بِأَحَدِ أَحْرُفِ الِاسْتِفْهَامِ كَ “هَلْ والْهَمْزِةِ”، أَوِ التَّنْبِيهِ كَ “أَلَا وَ: هَا”، أَوْ التَّأْكِيدِ، كَ “إِنَّ وأَنَّ”، أَوِ التَّحْقِيقِ كَ “قَدْ”.

وَتَبَارَكَ: تَعَاظَمَ خَيْرُهُ وَتَوَفَّرَ، وَالْمُرَادُ بِخَيْرِهِ كَمَالَاتُهُ وَتَنَزُّهَاتُهُ. وَمِثلُهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} الآيةَ: (54).

قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ، مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ، أِيْ: دَامَ.

قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ تَبَارَكَ اللَّهُ، وَلَا يُقَالُ مُتَبَارَكٌ وَلَا مُبَارَكٌ، لِأَنَّهُ يُنْتَهَى فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَى حَيْثُ وَرَدَ التَّوْقِيفُ.

قَالَ الشاعِرُ الطَّائيُّ الطِّرِمَّاحُ بْنُ حَكِيمٍ:

تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ ………………. وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ

وَقَالَ أَبو صَخْرٍ الْهُذَلِيُّ:

فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ …………….. لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السَّلِمُ النَّضِرُ

وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى …………. تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقَعُ لَكَ الشُّكْرُ

وَ “الفُرقان” مَصْدَرٌ مِنْ فَرَقَ بَيْنَ الشَّيئينِ إِذا فَصَلَ بَيْنَهُما، وَقَدْ سُمِّيِ بِهِ القُرْآنُ الكَريمُ لأَنَّ اللهُ فَرَّقَ بِأَحْكامِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ بِإِعْجازِهِ، وَيَجوزُ أَنْهُ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ دُفْعِةً واحِدَةً، بَلْ نَزَلَ مُفرَّقًا مُنَجَّمًا وَمَفْصُولًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فِي إِنْزَالِهِ، أَوْ في نَفْسِهِ وَمَوْضوعاتِهِ. لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقاً مُفَصَّلًا آيَاتٍ بَعْدَ آيَاتٍ، وَحْكْمًا بَعْدَ حُكْمٍ، وَسُورةً بَعْدَ سُورةٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَشَدُّ عِنَايةً بِمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ ـ سُبحانُهُ، فِي ثَنَايا هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} الْآيتَانِ: (32 و: 33).

وَقِيلَ: إِنَّ “الفُرقان” هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُنَزَّلٍ، وذلكَ لقَولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الأَنْبياءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وَهارُونَ الْفُرْقانَ} الآيةَ: (48). واللهُ أَعْلَمُ.  

قولُهُ: {عَلَى عَبْدِهِ} أَيْ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوصْفُهُ بالعُبودِيَّةِ للهِ وإِضافتُهِ للهِ ـ تَبَارَكَ وتعالى، تَشْريفٌ لَهُ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَكونُ إِلَّا عَبْدًا لِمُرْسِلِهِ، وفيهِ رَدٌّ عَلَى الَّذينَ قالوا بأُلوهِيّةِ أَنْبِيَائِهِمْ.

قَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لِيَكُونَ: بيانٌ للغايَةِ مِنْ تَنْزيلِ “الْكِتَاب”، فَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ الضَّميرُ عَلَيْهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعودَ عَلَى “الْفُرْقان” فَإِنَّ النِّذارةَ مُتَحَقِّقَةٌ فيهِما وَبِهِمَا مَعًا.

وَ “للعَالَمِينَ” أَيْ: للثَّقَلَيْنِ، وَهُمَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، فَإِنَّ سَيِّدَنا رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُرْسِلَ للجِنِّ، كما أُرْسِلَ للإِنْسِ كافةً، وَقدْ جاءَ ذَلِكَ في غيرِ مكانٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ الكريمِ، قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الآيةَ: (107)، وقالَ مِنْ سُورَةِ سَبَأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} الآيةَ: (28)، وَقَالَ مِن سُورَةِ الْجِنِّ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} الآيَتَانِ: (1 و 2).

وَ “نَذِيرًا” للمُبَالَغَة في النِّذارةِ، أَيْ: مُنْذِرًا، وَالنَّذِيرُ: الْمُخْبِرُ بِسُوءٍ يَقَعُ، وَهُوَ بوزنِ “فَعِيلٌ” بِمَعْنَى “مُفْعِلٌ” بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلَ الْحَكِيمِ.

وَالرَّسُولُ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، بَشيرٌ ونذيرٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تعالى، مِنْ سورةِ سَبَأٍ: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} الآيةَ: (28)، إِلَّا أَنَّهُ اقْتُصِرَ هُنَا فِي وَصْفِهِ عَلَى “النَّذِيرِ” دُونَ “الْبَشِيرِ” لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مقامُ إِنْذارٍ وتَهْدِيدِ للْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ، وَبِالرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَفِي ذَلِكَ اكْتِفَاءٌ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ تَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ عِنْدَ ذِكْرِ النِّذَارَةِ.

وَقَدَّمَ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، اللَّامِ الْجارَّةَ مَعَ مَجْرُورهَا “الْعالَمِبنَ” عَلى عَامِلِهَا “نَذِرًا” مُرَاعَاةً للفَوَاصِلِ

وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ المُباركةِ بَيْنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ وَالتَنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُمُومِ رِسَالَتِهِ إلى الخَلقِ، والحمدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي} تَبَارَكَ: فِعْلٌ مَاضٍ جَامِدٌ، مبنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ. و “الَّذِي” اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على القتحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا نَحْوِيًا لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.

قولُهُ: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} نَزَّلَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ. وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ على اللهِ ـ تَعَالى. و “الْفُرْقَانَ” مَفْعُولُهُ منصةبٌ بِهِ. و “عَلَى” حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “نَزَّلَ”، وَ “عَبْدِهِ” مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ وَمُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ قي مَحَلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذهِ صَلَةُ الاسْمِ الْمًوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.

قولُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لِيَكُونَ: اللَّامُ: “لامُ كَيْ” حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ مُتَعَلِّقٌ بِـ “نَزَّل”، وَ “يَكونَ” فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ، مَنْصوبٌ بِـ “أَنْ” الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ “لَاِم كَيْ”، واسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيها جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى “عَبْدِهِ” وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَعْنًى وَصِنَاعَةً لِقُرْبِهِ مِمَّا يَعُودُ عَلَيْهِ، ويَجوزُ أَنْ يعودَ عَلَى “الْفُرْقان” فيكونُ الفُرقانُ هُوَ النَّذيرَ، أَوْ عَلَى اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْذِرُ بِهِمَا حَقيقَةً. وَ “لِلْعَالَمِينَ” اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ “نَذِيرًا”، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ مُراعاةً للفاصِلَةِ. وَ “نَذِيرًا” خَبَرُ “كان” مَنْصوبٌ بِها. وَجُمْلَةُ “كانَ” مَعَ “أَنْ” الْمُضْمَرَةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِالَّلامِ الجارَّةِ، والتقديرُ: لِكَوْنِهِ نَذِيرًا، وَهَذا الجارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ “نَزَّلَ” كَمَا تَقَدَّمَ.  

قرَأَ الجُمهورُ: {عَلَى عَبْدِهِ} فالمُرادُ بـ “الفُرقان” القرآنُ الكريمُ، وَ “عَبْدِهِ” هُوَ سيِّدُنا مُحَمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، “عَلَى عِبَادِهِ”ـ فيكونُ المُرادُ بـ “الفرقان” بحسَبِ هَذِهِ القراءةِ، جَميعَ الكُتُبِ السَّماويةِ، وَ بـ “عبَادِهِ” جَميعَ المُرسلينَ الذينَ نَزَلتْ عليهم كُتُبٌ.


الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم
نأليف: عبد القادر الأسود
الجزء: 18
المُجَلَّد: 36
سورةُ الفُرقانِ
(25)
المقدِّمةُ

هِيَ سَبْعٌ وسَبْعُونَ آيةً، وَثَمَانُمِئَةٌ وَاثْنَتَانِ وَتِسْعُونَ كَلِمَةً، وَثَلاثَةُ آلافٍ وَسَبْعُمِئَةٍ وَثَلاثَةٌ وَثَلاثُونَ حَرْفًا.
وَالجُهورُ عَلى أَنَّها مَكِيَّةٌ كُلُّها، وَحَكَى الْبُقاعِيُّ الْإِجْماعَ عَلَى مَكِّيَّتِها. وَجاءَ فِي صَحِيحِ الإِمامِ الْبُخَارِيِّ: عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: هَلْ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ الآيةَ: (68)، مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}. فَقَالَ سَعِيدٌ: قَرَأْتَهَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كَمَا قَرَأْتَهَا عَلَيَّ؟ فَقَالَ: هَذِهِ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتْهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ، الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. يُرِيدُ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآيةً: (93). صَحِيحُ الْبُخارِيِّ: (برقم: 4762)، وَفَتْحُ البَارِي شرح صحيح الْبُخاري: (8/493). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الإِمامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (4/2318)، كِتَابُ التَّفْسيرِ: (برقم: 3023).
وَأَخْرَجَ ابْنُ الضِّريسِ، وَأَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي “دَلَائِلُ النُّبوَّةِ” مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفُرْقَانِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الزَّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْفُرْقَانِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ـ لاضِيَ اللهُ عنْهُ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاة رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ، لَمْ يُقْرِئْنيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْرَأَنيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ. فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِهِشَامٍ: ((اقْرَأْ)). فَقَرَأَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ))، ثُمَّ قَالَ: ((اقْرَأ يَا عُمَرُ)). فَقَرَأْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ ـ رحِمَهُمُ اللهُ ـ تَعَالى: مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ـ كِتَابُ القُرْآنِ، بابُ: مَا جَاءَ فِي القُرآنِ: (1/178 ـ 179)، وَأَحْمَدُ في المُسْنَدِ: (1/40، برقم: 277)، والْبُخارِيُّ في صحيحِهِ: (4/1909، برقم: 4706)، وَمُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (1/560، برقم: 818)، وَأَبُو دَاوُدَ: (2/75، بِرقم: 1475)، وَالتِّرْمِذِيُّ: (5/193، بِرقم: 2943)، وَقالَ: حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والنَّسَائِيُّ: (2/150، برقم: 937)، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ فِي الجامِعِ: (11/218، بِرقم: 20369)، وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ: (3/16، بِرقم: 41)، وأَبو نُعَيْمٍ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (2/412، بِرقم: 1851)، والْبَيْهَقِيُّ فِي “شُعَبُ الإِيمانِ”: (2/419، بِرقم: 2267).
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي “الْمَصَاحِف” عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى الصُّبْحَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فَأَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: ((هَلْ فِي الْقَوْمِ أُبيٌّ؟))، فَقَالَ أُبَيٌّ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: ((أَلَمْ أُسْقِطْ آيَةً)). قَالَ: بَلَى. قَالَ: ((فَلِمَ لَمْ تَفْتَحْهَا عَليّ؟)). قَالَ: حَسِبْتُهَا آيَةً نُسِخَتْ. قَالَ: ((لَا. وَلَكِنِّي أَسْقَطتُّهَا)).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ إِلَى قَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الْفرْقَان: (68 ـ 70).
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا نُشُورًا}. الآيةَ: (3) مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّها كُلَّها مَكِيَّةٌ بِمَا فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ، وَاللهُ أَعْلَمَ، لِأَنَّ الثابِتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يُخَالِفُ هَذَا ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا. فالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكْيَّةٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَلِهَذا الْحديِث شَاهِدٌ فِي “تَفْسيرِ مُقاتِلٍ”، وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسيرِ. “دَلائِلُ النُّبُوَّةِ” (7/144). وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزيِّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ البَصْريُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ فِي آخَرينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ أجمعينَ: هِيَ مَكِيَّةٌ. “زَادُ الْمَسيرِ”: (6/71). وَأُسْلُوبُ السُّورَةِ وَأَغْرَاضُهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ.
وقدْ وَرَدَ في فضْلِ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْفُرْقَانِ بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُؤْمِنُ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ)). أَوْرَدَهُ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسيرِهِ: “الْوَسِيطُ”: (3/333)، وَالْحَديثُ فِي تَفْسيرِ الثَّعْلَبِيِّ أَيْضًا: (8/91 ب). وَقدْ حَكَمَ عَلَيْهِ الإمامُ الزَّيْلَعِيُّ بالوضع، في تَخْريجِهِ لِأَحاديثِ “الْكَشَّافِ” للإمامِ الزمخشَريِّ: (2/469)، وَالإمامُ الْمَنَاوِيُّ فِي “الْفَتْحُ السَّمَاوِيُّ فِي تَخْريجِ أَحَادِيثِ الْبَيْضَاوِيِّ”: (2/885). واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورةِ الكريمةِ لِمَا قَبْلَهَا: مَا فِي خَاتِمَتِ الأُولى مِنْ تَعْظيمِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا افْتُتِحَتْ بِهِ الثانيَةُ مِنْ تَعْظِيمِهِ أَيْضًا بِكَونِهِ نَذيرًا للعالَمِينَ. كما نَاسَبَ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى هنا فِى هَذِهِ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، قَوْلَهُ هناكَ: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وقد سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بهَذا الاسْمِ “الْفُرْقَانِ” فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَسْمَعٍ مِنْهُ. لما جاءَ فِي حَديثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ المُتقدَّمِ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُهُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بـ “سُورَةُ الْفُرْقَانِ” وُقُوعُ لَفْظِ الْفُرْقَانِ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يس وَقَبْلَ سُورَةِ فاطر.


الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم

نأليف: عبد القادر الأسود

الجزء: 18

المُجَلَّد: 36

سورةُ النُّور الآيةَ: 64

الموسوعةُ القُرآنيَّةُ فيضُ العليمِ مِنْ مَعاني الذكرِ الحكيم

نأليف: عبد القادر الأسود

الجزء: 18

المُجَلَّد: 36

سورةُ النُّور الآيةَ: 64

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

(64)

قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} مِنَ الْمَوْجُوداتِ جميعِهَا إِنْ مِنْ حَيْثُ الْخَلْقِ بِدْءً وَإِعادَةً، إِيجادًا وَإِعْدامًا، وَإنْ مِنْ حَيْثُ الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّف، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ للهِ وَحْدَهُ، لَا شَريكَ لَهُ.

قوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} مِنَ أَحْوالِكُمْ ـ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ، وَأَوْضَاعِكُمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مُوَافَقَتُكُمْ للهِ وَرَسُولِهِ وَمُخالَفَتُكمْ لَهُمَا، وَإِخْلَاصُكُمْ الإِمانَ والعَمَلَ الصَّالِحَ للهِ ـ تَعَالى، وَيَعْلمُ كَذَلِكَ نِفاقَ مَنْ نافَقَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ، وَسَيُجَازِيكُمْ بِهِ، كُلٌّ بِمَا قَدَّمَ. فَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مُشَاهِدٌ لَهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، كَمَا قَالَ مِنْ سُورةِ مِنْ سورةِ الآنْعام: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} الآيةَ: (59)، وكما قالَ مِنْ سُورةِ يُونُسَ ـ علَيْهِ السَّلامُ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} الآيةَ: (61)، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ هودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} الآيةَ: (5)، ثمَّ قَالَ في الآيةِ: (6) منها: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ}، وَكَمَا قَالَ في الآيَةِ: (10) مِنْ سورةِ الرَّعْدِ: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ}، ثمَّ قَالَ في الآيةِ: (33) مِنْها: {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} إِلَى أَنْ قَال: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآيَاتِ: (217 ـ 220)، أَيْ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، شَهِيدٌ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا هُمْ فَاعِلُونَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: “قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” الْآيَةَ. قَالَ: مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ عَلَى أَمْرٍ، وَلَا عَلَى حَالٍ، إِلَّا كانُوا بِعَينِ اللهِ، وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ شَاهِدٌ مِنْ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وأخرجَهُ ابْنُ أَبي حاتِمٍ في تفسيرِهِ: (8/2658). وَالْآيَاتُ الكَريمةُ، وَالْأَحَادِيثُ الشَّريفةُ الواردَةُ فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَةٌ جِدًّا يَصْعُبُ حَصْرُها.

وَالْفِعْلُ الْمُضارعُ “يَعْلَمُ” هُوَ هُنَا بِمَعْنَى الفِعْلِ الْمَاضِي “عَلِمَ”، في تَحَقُّقِهِ وَثُبُوتِ حُصُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنْ ذَكَرْنا فِي تَفْسيرِ الْآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا أَنَّ “قَدْ” مَعَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ تَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيلِ إِلَّا فِي أَفْعَالِ اللهِ ـ تَعَالَى، فَإِنَّها تَدُلُّ عَلَى التَّكْثيرِ وَالتَّحْقِيقِ ـ كَمَا هِيَ هَهُنَا فِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَريمَةِ. قَالَ: الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ: “أَدْخَلَ “قد” لِيُؤَكِّدَ عِلْمَهُ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ وَالْمُخالَفَةِ عَنِ الدينِ، وَيَرْجِعُ تَوْكِيدُ الْعِلْمِ إِلَى تَوْكيدِ الْوَعِيدِ: وَذَلِكَ أَنَّ “قَدْ” إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضارعِ كَانَتْ بِمَعْنَى “رُبَّما” فَوَافَقَتْ “رُبَّما” في خُرُوجِها إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ فِي نَحْوِ قَوْلِ أَبي عَطَاءٍ السِّنْدِيِّ يَرْثي يَزيدَ بْنَ عُمَرَ بْنِ هُبَيرَةَ لَمَّا قُتِلَ بِوَاسِطَ مِنْ أرضِ الْعِرَاقِ:

فَإِنْ تُمْسِ مَهْجُورَ الْفِناءِ فَرُبَّما ……………………. أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الْوُفُودِ وُفُودُ

فإِنَّكَ لم تَبْعُدْ على مُتعَهِّدٍ ………………….. بَلَى كُلُّ مَنْ تَحْتَ التُّرَابِ بَعِيدُ

ونحوٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:

أَخي ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ …………………. وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نائِلُهْ

الكشَّاف: (4/421). وردَّهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ في تَفْسيرِهِ “البَحْرُ المحيطُ” فقالَ: وَكَوْنُ “قَدْ” إِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُضارِعِ أَفَادَتِ التَّكْثيرَ قَوْلٌ لِبَعْضِ النُّحاةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّما التَّكْثِيرُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ. وَالصَّحيحُ: أَنَّ “رُبَّ” لِتَقْلِيلِ الشَّيْءِ، أَوْ لِتَقْلَيلِ نَظيرِهِ. وَإِنْ فُهِمَ تَكْثِيرٌ فَمِنَ السِّيَاقِ لَا مِنْهَا. البحرُ المُحيطُ: (8/240).

قوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهٍ: “مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ” أَيْ: وَيَعْلَمُ اللهُ ـ تَعَالى، يَوْمَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ الجَميعُ لِلْجَزَاءِ والثَّوَابِ، أَوِ الْعِقَابِ والعَذابِ، يعلمُ الْمُنَافِقِينَ الَّذينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ، وَأَمْرَ رسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ.

أَيْ وَيَوْمَ تُرْجَعُ الْخَلَائِقُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ يُخْبِّرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ جَلِيلٍ الأعمالِ وخيِّرِها، أَو حَقِيرِها وَصَغِيرِها وَكَبِيرِها وَسَيِّئِها، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الكهفِ: {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} الْآيةَ: (49)، وكما قال مِنْ سُورَةِ الْقِيامَةِ: {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} الْآيَة: (13). وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: “وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ”.

قوُلُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ: عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، فَلَا يَخْفي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، والإِشارةُ إلى أَنَّهُ سيُحاسِبُهُمْ علَيْها ويجْزِيَهُم ويُجازيهم بها، إِنْ خَيْرًا فخيْرٌ، ولإنْ شَرًّا فشَرٍّ.

وَأخرج أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ فِي خَاتِمَةِ النُّورِ، وَهُوَ جَاعِلٌ أُصْبُعَيْهِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ، يَقُولُ: ((بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)). الْمُعْجَمُ الكبيرُ للطَّبَرَانِيِّ: (12/248)، وَالله أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أَلَا: حَرْفُ اسْتِفْتاحٍ وَتَنْبِيهٍ. و “إِنَّ” حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بِالْفِعْلِ للتَّأْكيدِ. و “لِلَّهِ” اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِـ “إِنَّ”، ولفظُ الْجَلَالَةِ “اللهِ” مَجْرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. و “مَا” اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ “إِنَّ” الْمُؤَخَّرُ. و “فِي” حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ “مَا” الْمَوْصُولَةِ، وَ “السَّمَاوَاتِ” مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرٍّ. وَ “الْأَرْضِ” مَعْطوفٌ عَلَى السَّمَاواتِ مجرورٌ مِثلُهُ، وَجُمْلَةُ “إِنَّ” مِنِ اسْمِها وَخَبَرِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.

قولُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ مَا} قَدْ: حَرْفٌ للتَّكْثِيرِ بِمَعْنَى “رُبَّ” التَّكْثيرِيَّةِ وقدْ تقدَّمَ تفصيلُ إِعْرابِهِ في مَبْحَثِ التَّفْسيرِ. و “يَعْلَمُ” فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و “ما” اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الْمَفْعُوليَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحاِل مِنْ لَفظِ الجَلَالَةِ.

قولُهُ: {أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أَنْتُمْ: مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ. و “عَلَيْهِ” حرفُ الجَرِّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ “ما” الْمَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.

قولُهُ: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} الوَاو: للعَطْفِ. وَ “يَوْمَ” مَنْصوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ مُتَعلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، أوْ مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى “مَا” أَيْ: يَعْلَمُ الَّذي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ، وَيَعْلَمُ يَوْمَ يُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ. و “يُرْجَعُونَ” فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والْجازمِ، وَعَلَامَةُ رَفعِهِ ثباتُ النُّونِ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الْجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهَ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الررَّفعِ بالنيابةِ عن فاعِلِهِ. و “إِلَيْهِ” حرفُ جَرٍّ مُتُعُلِّقٌ بِـ “يُرْجَعُونَ”، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الْجَرِّ بإِضَافَةِ “يوم” إِلَيْهَا.

قولُهُ: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ. و “يٌنَبِّئُهُمْ” فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تعالى. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مُفْعُولُهُ الأوَّلُ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَ “بِمَا” الباءُ حَرْفُ جَرِّ مُتعلِّقٌ بالْمَفْعُولِ الثَّاني لِـ “يُنَبِّئُهُمْ”، وَ “مَا” اسْمٌ مَوصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكةنِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: “قَدْ يَعْلَمُ”.

قولُهُ: {عَمِلُوا} فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الْجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهَ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الررَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتفريقِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ “ما” لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعربِ، وَالعائدُ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: بِمَا عَمِلُوهُ.

قولُهُ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الوَاوُ: للاسْتِئْنافِ، ولفظُ الجلالةِ “اللَّهُ” مَرْفوعٌ بالابتِداءِ. و “بِكُلِّ” الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “عَلِيمٌ”، و “كلَّ” مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ. و “شَيْءٍ” مجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و “عَلِيمٌ” خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مرفوعٌ. والْجُمْلَةُ اسْميَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.

قرأ العامَّةُ: {يُرْجَعون} بالبناءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو ابْنُ العَلاءِ فِي آخَرينَ “يَرْجِعون” بالبناءِ للفَاعِلِ. وَفي القِرَاءَتَيْنِ وَجْهَانِ، الأَوَّلُ: أَنْ يَكونَ فِي الْكَلَامِ الْتِفاتٌ مِنَ الْخِطابِ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: “يُرْجَعُون”. وَالثاني: أَنَّ “مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ” خِطَابٌ عامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَالضَّميرُ في “يُرْجَعُون” لِلْمُنافِقِينَ خَاصَّةً، وَعَلَيْهِ فَلَا الْتِفاتَ.

تمَّتْ بِجمدِهِ ـ تباركَ وَتَعالى، ومِنَّتِهِ وتوفيقِهِ، سُورَةُ النُّورِ ويليها سورةُ الفُرقانِ بمعونةِ الرّحيمِ الرّحمن.

Previous Older Entries

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com