فيض العليم …. سورة يوسف، الآية: 21
 
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
 
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ} هذا بَيَانٌ لِبَعْضِ مَظاهِرِ رِعايَةِ اللهِ تعالى لِنَبيِّهِ يوسفَ ـ عليْهِ السَّلامُ، وعنايَتِه بهِ. والذي اشتراهُ هو وَالِي مَدِينَةِ مِصْرَ وصَاحِبُ أَمْرِ الْمَلِكِ فيها، ورئيسُ رِجالِ شُرَطِهُ (فوطيفار) أو “قطيفين”، أو “قطين”، أو “قطفير” كما رواهُ الطَبَرِيُّ في تاريخه (1: 172) وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وكانَ يُلَقَّبُ بالعَزِيزِ، وهوَ اللَّقِبُ الوارِدُ في القرآنِ الكريم. أَمَّا مِصرُ فهي المَذْكورَةُ في كُتُبِ التاريخِ باسمِ “مَنْفِيسَ”، فهي مَدِينَةُ مِصْرَ، وقَاعِدَتُها مِصْرَ السُّفْلَى الَّتِي كان يَحْكُمُهَا قَبَائِلُ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ عُرِفُوا عِنْدَ القُبْطِ باسْمِ (الهِيكْسوسِ) أَيِ الرُّعَاةُ. وَكَانَتْ مِصْرُ الْعُلْيَا الْمَعْرُوفَةُ الْيَوْمَ بِالصَّعِيدِ تَحْتَ حُكْمِ فَرَاعِنَةِ الْقِبْطِ. وَكَانَتْ مَدِينَتُهَا الأَقْصُرُ، جَمْعُ قَصْرٍ، لِأَنَّ فيهَا أَطْلَالَ الْقُصُورِ الْقَدِيمَةِ، أَيِ الْهَيَاكِلُ. وَهِيَ الْيَوْمَ خَرَابٌ يزورها السُيّاحُ مِنْ كلِّ أَقْطارِ الدُنيِا، وَكَانَتْ حُكُومَةُ مِصْرَ الْعُلْيَا مُسْتَضْعَفَةً لِغَلَبَةِ العمالِقَةِ الْكَنْعَانِيِّينَ عَلَيْها. وَكَانَ الْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ وَنَوَاحِيهَا الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ شِرْوَانَ، مِنَ الْعَمَالِقَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ باللهِ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَيُوسُفُ ـ عليهِ السلامُ، حَيٌّ. وقيل هو فرعونُ موسى ـ عليه السلامُ، لِقَوْلِ مُوسَى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ} الآية: 34، منْ سورةِ غافر، وَقيل بأَنَّهُ عَاشَ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمَّا دَخَلُوا مِصْرَ تَلَقَّى قِطْفِيرُ مَالِكَ بْنَ ذُعْرٍ (الذي التقطَهُ مِنَ الجبِّ) فَابْتَاعَ مِنْهُم يُوسُفَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَزَوْجِ نَعْلٍ وَثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ. وَقَالَ أَيْضًا وَهْبُ بْنُ منبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَغَيْرُهُ: وَلَمَّا اشْتَرَى مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ يُوسُفَ مِنْ إِخْوَتِهِ كَتَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ كِتَابًا: هَذَا مَا اشْتَرَى مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، وَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مَمْلُوكًا لَهُمْ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ شَرَطُوا لَهُ أَنَّهُ آبِقٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ بِهِ إِلَّا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ عَهْدَ اللهِ. قَالَ: فَوَدَّعَهُمْ يُوسُفَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَقُولُ: حَفِظَكُمُ اللهُ وَإِنْ ضَيَّعْتُمُونِي، نَصَرَكُمُ اللهُ وَإِنْ خَذَلْتُمُونِي، رَحِمَكُمُ اللهُ وَإِنْ لَمْ تَرْحَمُونِي، قَالُوا: فَأَلْقَتِ الْأَغْنَامُ مَا فِي بُطُونِهَا دَمًا عَبِيطًا لِشِدَّةِ هَذَا التَّوْدِيعِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى قَتَبٍ بِغَيْرِ غِطَاءٍ وَلَا وِطَاءٍ، مُقَيَّدًا مُكَبَّلًا مُسَلْسَلًا، فَمَرَّ عَلَى مَقْبَرَةِ آلِ كَنْعَانَ فَرَأَى قَبْرَ أُمِّهِ ـ وَقَدْ كَانَ وُكِّلَ بِهِ أَسْوَدُ يَحْرُسُهُ فَغَفَلَ الْأَسْوَدُ، فَأَلْقَى يُوسُفُ نَفْسَهُ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ فَجَعَلَ يَتَمَرَّغُ وَيَعْتَنِقُ الْقَبْرَ وَيَضْطَرِبُ وَيَقُولُ: يَا أُمَّاهُ! ارْفَعِي رَأْسَكَ تَرَيْ وَلَدَكَ مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا مَغْلُولًا، فَرَّقُوا بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي، فَاسْأَلِي اللهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَنَا فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَتَفَقَّدَهُ الْأَسْوَدُ عَلَى الْبَعِيرِ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَفَا أَثَرَهُ، فَإِذَا هُوَ بَيَاضٌ عَلَى قَبْرٍ، فَتَأَمَّلَهُ فَإِذَا هُوَ إِيَّاهُ، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فِي التُّرَابِ وَمَرَّغَهُ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا، فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلُ! وَاللهِ مَا هَرَبْتُ وَلَا أَبَقْتُ وَإِنَّمَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ أُمِّي فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُوَدِّعَهَا، وَلَنْ أَرْجِعَ إِلَى مَا تَكْرَهُونَ، فَقَالَ الْأَسْوَدُ: وَاللهِ إِنَّكَ لَعَبْدُ سُوءٍ، تَدْعُو أَبَاكَ مَرَّةً وَأُمَّكَ أُخْرَى! فَهَلَّا كَانَ هَذَا عِنْدَ مَوَالِيكَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ لِي عِنْدَكَ خَطِيئَةٌ أَخَلَقْتَ بِهَا وَجْهِي فَأَسْأَلُكَ بِحَقِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، فَضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ! غُضَّ صَوْتَكَ فَلَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ! أَفَتُرِيدُ أَنْ أَقْلِبَ الْأَرْضَ فَأَجْعَل عَالِيَهَا سَافِلَهَا؟ قَالَ: تَثَبَّتْ يَا جِبْرِيلُ، فَإِنَّ اللهَ حَلِيمٌ لَا يَعْجَلُ، فَضَرَبَ الْأَرْضَ بِجَنَاحِهِ فَأَظْلَمَتْ، وَارْتَفَعَ الْغُبَارُ، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَبَقِيَتِ الْقَافِلَةُ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَقَالَ رَئِيسُ الْقَافِلَةِ: مَنْ أَحْدَثَ مِنْكُمْ حَدَثًا؟ فَإِنِّي أُسَافِرُ مُنْذُ كَيْتَ وَكَيْتَ مَا أَصَابَنِي قَطُّ مِثْلُ هَذَا، فَقَالَ الْأَسْوَدُ: أَنَا لَطَمْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ الْعِبْرَانِيَّ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا هَلَاكَنَا! اِيتَنَا بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ! لَقَدْ لَطَمَكَ فَجَاءَنَا مَا رَأَيْتَ، فَإِنْ كُنْتَ تَقْتَصُّ فَاقْتَصَّ مِمَّنْ شِئْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْفُو فَهُوَ الظَّنُّ بِكَ، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ رَجَاءَ أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنِّي، فَانْجَلَتِ الْغَبَرَةُ، وَظَهَرَتِ الشَّمْسُ، وَأَضَاءَ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَجَعَلَ التَّاجِرُ يَزُورُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَيُكْرِمُهُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مِصْرَ فَاغْتَسَلَ فِي نِيلِهَا وَأَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ كَآبَةَ السَّفَرِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ جَمَالَهُ، وَدَخَلَ بِهِ الْبَلَدُ نَهَارًا فَسَطَعَ نُورُهُ عَلَى الْجُدَرَانِ، وَأَوْقَفُوهُ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ قِطْفِيرُ وَزِيرُ الْمَلِكِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ وَهَبٌ قَدِمَتِ السَيَّارَةُ بِيُوسُفَ مِصْرَ، فَدَخَلُوا بِهِ السُّوقَ يَعْرِضُونَهُ لِلْبَيْعِ، فَتَرَافَعَ النَّاسُ فِي ثَمَنِهِ حَتَّى بَلَغَ ثَمَنُهُ وَزْنَهُ ذَهَبًا وَوَزْنَهُ فِضَّةً وَوَزْنَهُ مِسْكًا وَحَرِيرًا، وَكَانَ وَزْنُهُ أَرْبَعَ مِئَةِ رِطْلٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَابْتَاعَهُ قِطْفِيرُ مِنْ مَالِكِ بْنِ ذُعْرٍ بِهَذَا الثَّمَنِ. واللهُ أعلمُ. وأخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الَّذِي اشْتَرَاهُ ظِيفَرَ بْنُ رَوْحَبَ، وَكَانَ اسْمُ امْرَأَتِهِ راعِيلَ بِنْتَ رَعائيل. وَأَخْرجَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لمَّا بَاعَ يُوسُفَ صَاحبُهُ الَّذِي بَاعَهُ مِنَ الْعَزِيزِ ـ واسْمُه مَالِكُ بْنُ ذعر، قَالَ حِينَ بَاعَهُ: مَنْ أَنْتَ؟. وَكَانَ مَالِكٌ مِنْ مَدْيَنَ، فَذكَرَ لَهُ يُوسُفُ مَنْ هُوَ وَابْنَ مَنْ هُوَ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: لَو كنْتَ أَخْبَرتَنِي لَمْ أَبْعْكَ. ادْعُ لِي فَدَعَا لَهُ يُوسُفُ فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ. قَالَ: فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ بَطْنًا فِي كُلِّ بَطْنٍ غُلامانِ.
أَمَّا امْرَأَةُ العزيزِ فهِيَ (زَلِيخَا)، وَيُسَمِّيهَا الْيَهُودُ (رَاعِيلَ) أوْ (راحِيلَ). وهيَ ابْنَةُ أَحَدِ مُلوكِ المَغْرِبِ، وكانَتْ رَأَتْ في منَامِها أَنَّها تَتَزَوَّجُ مَلِكَ مِصْرَ، ورَأَتْ صُورَتَهُ جميلةً جِدًّا، فعَشِقَتْهُ دونَ أنْ تراهُ، والصُّورةُ التي رَأَتْها في مَنَامِها كانتْ صُورةَ يوسُفَ، فلمَّا خُطِبَتْ للعَزيزِ، وافَقَتْ عليهِ دُونَ تَرَدُّدٍ، وحُمِلَتْ إِلَيْهِ مُحَمَّلَةً بالهدايا الثَمينَةِ، فلَمَّا رَأَتِ العَزيزَ، أُسْقِطَ في يَدِهَا، وعاشَتْ في كنفِهِ تعيسَةً إلى أَنْ لَقِيَتْ يوسُفَ. وقد أَوْرَدْنَا قِصَّتَها بِشَيْءٍ مِنَ التَفْصِيلِ في البابِ الخامِسِ مِنْ كِتَابِنَا المُسَمَّى (المرأَةُ في الغَزَلِ الصُّوفيِّ). و “لِامْرَأَتِهِ” مُتَعَلِّقٌ بِ “قالَ” أَوْ بِ “اشْتَراهُ” أَوْ يَتَنَازَعُهُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ، فَيَكُونُ اشْتَرَاهُ لِيَهَبَهُ لَهَا لِتَتَّخِذَهُ وَلَدًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، فقد كانَ العزيزُ عِنِّينًا، لأنَّ يوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، وَجَدَهَا عَذْراءَ حِينَ بَنَى بِهَا، عَلى ما ذُكِرَ في الأَخبارِ. وَامْرَأَتُهُ: مَعْنَاهُ زَوْجُهُ، فَإِنَّ الزَّوْجَةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمَرْأَةِ وَيُرَادُ مِنْهُ مَعْنَى الزَّوْجَةِ.
قولُهُ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أَيْ: أَحْسِنِي إِلَيْه مَقامَهُ عِنْدَنا، واجْعَلِي إِقَامَتَهُ عِنْدَكِ كَرِيمَةً. وَكَانَ اللهُ أَلْقَى مَحَبَّةَ يُوسُفَ عَلَى قَلْبِ الْعَزِيزِ، فَأَوْصَى بِهِ أَهْلَهُ. وَالْمَثْوَى: هُوَ الْمَحَلُّ الَّذِي يَثْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: “أكرمي مثواهُ” قَالَ: مَنْزِلَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، مثلَ ذلك. فقد أَرَادَ العزيزُ أَنْ يُجْعَلَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ سَبَبًا فِي اجْتِلَابِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا وَنُصْحِهِ لَهُمَا فَيَنْفَعُهُمَا، أَوْ يَتَّخِذَانِهِ وَلَدًا فَيَبَرُّ بِهِمَا وَذَلِكَ أَشَدُّ تَقْرِيبًا. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِحُسْنِ تَفَرُّسِهِ فِي مَلَامِحِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْمُؤْذِنَةِ بِالْكَمَالِ. فَاسْتَدَلَّ مِنْ كَمَالِ خَلْقِ يُوسُفَ وَخُلُقِهِ، وَذَكَائِهِ وَحُسْنِ خِلَالِهِ، عَلَى أَنَّ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَكَرَمَ وِفَادَتِهِ وَشَرَفَ تَرْبِيَتِهِ، خَيْرٌ مُتَمَّمٌ لِحُسْنِ اسْتِعْدَادِهِ الْفِطْرِيِّ، إِذْ لَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَ الْأَذْكِيَاءِ إِلَّا الْبِيئَةُ الْفَاسِدَةُ وَسُوءُ الْقُدْوَةِ.
أَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّهُ قَالَ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ تَفَرَّسَ فِي عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فَاسْتَخْلَفَهُ، وَالَّتِي قَالَتْ: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} سورة القصص، الآية: 26، وَالْعَزِيزُ حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: “أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا” سورةُ يوسف، الآية: 21. سُنَنُ سَعيدِ بْنِ مَنْصورٍ: (4/20)، ومُصَنَّفُ ابْنِ أَبي شَيْبَةَ: (7/435)، وَالمُسْتَدْرَكُ بِتَعْليقِ الذهبي: (4/168)، قالَ الحاكمُ: فَرَضِيَ اللهُ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ لقدْ أَحْسَنَ في الجَمْعِ بَيْنَهم بِهذا الإسْنَادِ، وتعليقُ الذَّهَبِيِّ في التَلْخيصِ: صحيح.
قولُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: وكما نجَّينا يوسُفَ مِنَ القَتْلِ والبِئْرِ، نمكِّنُ له في الأرضِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالتَّسْخِيرِ جَعَلْنَا لِيُوسُفَ مَكَانَةً عَالِيَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ، كَانَ هَذَا الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَزِيزِ مَبْدَأَهَا؛ لِيَقَعَ لَهُ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ فِي السِّجْنِ مَا يَقَعُ مِنَ التَّجَارِبِ، وَالِاتِّصَالِ بِسَاقِي الْمَلِكِ فَيَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ “وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ” كَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ مَا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّمْكِينِ، وَقَوْلُهُ لِلْمَلِكِ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} الآية: 55. وَقَوْلُ الْمَلِكِ لَهُ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} الآية: 54. وَالمُرَادٌ بالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ هَنَا بِهِ ابْتِدَاؤُهُ، وَتَقْدِيرُ أَوَّلِهِ، فَإنَّ حُلُولَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ عَزِيزِ مِصْرَ مَحَلَّ الْعِنَايَةِ والاهتمامِ، قَدْ خَطَّ لَهُ مُسْتَقْبَلَ تَمْكِينِهِ مِنَ الْأَرْضِ بِالْوَجْهِ الْأَتَمِّ الَّذِي أُشِيرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 56: {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ}، فَهُوَ بالنسبةِ لِمَا ذُكِرَ هُنَا في هذِهِ الآيةِ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَهُوَ تَمَامُهُ.
قولُهُ: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} تأويلُ الأَحاديثِ تعبيرُها، وحلُّ رُمُوزِها، وفهمُ مَغْزاها، فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شيبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعالى: “وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ” قَالَ: عبارَة الرُّؤْيَا. وهذا العَطْفُ عَلَى “كذلِكَ” عِلَّةٌ لِمَعْنًى مُسْتَفَادٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْإِيتَاءُ، لِأَنَّ اللهَ لَمَّا قَدَّرَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَالِمًا بِتَأْوِيلِ الرُّؤَى، وَأَنْ يَجْعَلَهُ نَبْيًّا، أَنْجَاهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ تَهْيِئَةً لِأَسْبَابِ مُرَادِهِ.
قولُهُ: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أَمْرُ اللهِ تعالى هُوَ مَا قَدَّرَهُ وَأَرَادَهُ، وقال سَعيدُ بْنِ جُبَيْرٍ: فَعَّالٌ، أَخرجهُ عنهُ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وقال مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ” قَالَ: لُغَة عَرَبِيَّة. أخْرَجَهُ عنهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ” قَالَ: لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَبْلُغَ يُوسُفُ. فَمَنْ سَعَى إِلَى عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا أَرَادَهُ اللهُ، كانَ حَالُهُ كَحَالِ الْمُنَازِعِ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ الْأَمْرَ الَّذِي أَرَادَهُ، وَيَمْنَعَ حُصُولَ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى. وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللهُ تَعَالَى فَشَأْنُ اللهِ تَعَالَى كَحَالِ الْغَالِبِ لِمُنَازِعِهِ. وَالْمَعْنَى وَاللهُ مُتَمِّمٌ مَا قَدَّرَهُ. والضَمِيرُ في “أَمْرِهِ” عَائِدٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ “اللهُ”. أيْ: إِنَّ أمرَهُ ـ سُبْحانَهُ، نافذٌ وفقَ إرادتِهِ، لا يَغْلِبُهُ عَلَى مَا أَرادَ مِنْ قَضائِهِ غالِبٌ، ولا يُبْطِلُ إرادتَهُ مُنَازِعٌ. وَهذه الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَتَذْيِيلٌ، لِأَنَّ مَفْهُومَهَا عَامٌّ يَشْمَلُ غَلَبَ اللهِ إِخْوَةَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِإِبْطَالِ كَيْدِهِمْ. وَحَرْفُ “عَلى” بَعْدَ مَادَّةِ الْغَلَبِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ فِيهِ النِّزَاعُ، كَما تقَوْلُ: غَلَبْنَاهُمْ عَلَى الْمَاءِ.
قولُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ: الذينَ هُمُ المُشْرِكونَ والذينَ لا يُؤمِنونَ بالقَدَرِ، “لا يعلمونَ” أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ غالِبَةٌ، ومَشيئَتَهُ نافِذَةٌ. ولَا يَطَّلِعُونَ عَلَى غَيْبِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ الْجَمِيعُ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَقِيلَ: هُوَ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، إِذْ قَدْ يُطْلِعُ مِنْ يُرِيدُ عَلَى بَعْضِ غَيْبِهِ. وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ حَيْثُ، أَمَرَ يَعْقُوبُ ابْنَهُ يوسُفَ، أَلَّا يَقُصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى إِخْوَتِهِ فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ حَتَّى قَصَّ، ثُمَّ أَرَادَ إِخْوَتُهُ قَتْلَهُ فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ حَتَّى صَارَ مَلِكًا وَسَجَدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَرَادَ الْإِخْوَةُ أَنْ يَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ حَتَّى ضَاقَ عَلَيْهِمْ قَلْبُ أَبِيهِمْ، وَافْتَكَرَهُ بَعْدَ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ ثَمَانِينَ سَنَةً، فَقَالَ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} ثُمَّ تَدَبَّرُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ، أَيْ تَائِبِينَ فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ حَتَّى نَسُوا الذَّنْبَ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ حَتَّى أَقَرُّوا بَيْنَ يَدَيْ يُوسُفَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَالُوا لِأَبِيهِمْ: {إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ} الآية: 97، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَخْدَعُوا أَبَاهُمْ بِالْبُكَاءِ وَالْقَمِيصِ فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ فَلَمْ يَنْخَدِعْ، وَقَالَ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} الآية: 18، السابقة، ثُمَّ احْتَالُوا فِي أَنْ تَزُولَ مَحَبَّتُهُ مِنْ قَلْبِ أَبِيهِمْ فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ فَازْدَادَتِ الْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ دَبَّرَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ أَنَّهَا إِنِ ابْتَدَرَتْهُ بِالْكَلَامِ غَلَبَتْهُ، فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ حَتَّى قَالَ الْعَزِيزُ: {واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} الآية: 29، ثُمَّ دَبَّرَ يُوسُفُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ السِّجْنِ بِذِكْرِ السَّاقِي فَغَلَبَ أَمْرُ اللهِ فَنَسِيَ السَّاقِي، ولبِثَ يُوسُفُ في السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.
قولُهُ تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ} الواوُ: للاستئنافِ، وَ “قَالَ” فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، و “الَّذِي” اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلٍ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و “اشْتَرَاهُ” فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخرِهِ لتعذُّر ظُهورِهِ على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ “هو” يعودُ على الاسمِ الموصولِ “الذي” والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ. و “مِنْ مِصْرَ” حرفُ جرِّ متعلقٌ بِنَفْسِ الفِعْلِ قَبْلَهُ، أَيْ: اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ، كَقَوْلِكَ: اشْتَرَيْتُ الثّوْبَ مِنْ بَغْدَادَ، فهي لابْتِداءِ الغايَةِ، وقولُ أَبي البَقاءِ: أي: فيها، أَوْ بها، لا حَاجَةَ إِلَيْهِ. ويَجوزُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمْحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ “الذي”. أَوْ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّميرِ المَرْفوعِ في “اشْتَرَاهُ” فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذوفٍ أَيْضًا. وفي هَذَيْنِ نَظَرٌ إِذْ لا طائلَ في هَذا المَعْنَى. و “مصر” مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جَرِّهِ الفتحةُ بدلًا مِنَ الكسرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ منَ الصرفِ، وهذه الجملةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ المَوْصُولِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و “لِامْرَأَتِهِ” اللامُ حرفُ جَرٍّ فهي للتبليغ، مُتَعَلِّقٌ بـِ “قَالَ” و “امرَأَتِهِ” مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أَكْرِمِي: فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والياءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، و “مَثْوَاهُ” مفعولٌ بهِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخِرِهِ، لتعذُّرِ ظهورِها على الألفِ، وهو مضافٌ والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لِ “قَالَ”. و “عَسَى” فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ، واسْمُهُ ضَميرٌ مستترٌ يعود عَلى يُوسف. و “أَنْ” حرفٌ مصدريٌّ ناصِبٌ، و “يَنْفَعَنَا” فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ به، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا، تقديرُهُ: “هو” يَعودُ عَلَى يُوسُفَ، و “نا” ضميرُ جَماعَةِ المُتَكَلِّمينَ ضَميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلى كَوْنِهِ خَبَرَ “عَسَى” ولكنَّهُ في تَأويل اسْمِ الفاعِلِ والتقديرُ: عَسَى نَفْعُهُ إِيَّانَا؛ أَيْ: نَافِعًا لَنَا، وجُمْلَةُ “عَسَى” مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلَها عَلى كَوْنِهَا مَقولَ القَوْلِ. و “أَوْ” حرفُ عطفٍ، و “نَتَّخِذَهُ” فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ عَطْفًا عَلَى “يَنْفَعَنَا” والفاعِلُ ضميرُ المتكلِّمين المُسْتَتِرٌ فيه وُجوبًا تَقديرُهُ “نحنُ” والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ الأوَّل، و “وَلَدًا” مفعولُهُ الثاني والتَقْديرُ: عَسَى نَفْعُهُ إيانا، أو اتخاذُنا إياه ولدًا؛ أي: عَسى هو نافعًا لنا، أو مُتخَذًا لنا ولدًا.
قولُهُ: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} الواو: اسْتِئْنافيّة. كذلك: الكافُ حرفُ جَرٍّ للتشبيه، وهي حالٌ مِنْ ضَميرِ المَصْدَرِ أَوْ نَعْتٌ لَهُ، أَيْ: ومِثْلَ ذَلِكَ الإِنْجاءِ والعَطْفِ مَكَّنَّا لَهُ، أَيْ: كَمَا أَنْجَيْناهُ وعَطَّفْنا عَلَيْهِ العَزيزَ مَكَّنَّا لَهُ فِي أَرْضِ مِصْرَ. إِنْ أَجْرَيْنَا اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى قِيَاسِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي الآية: 143 مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّمْكِينِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ تَنْوِيهًا بِأَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ بَلَغَ غَايَةَ مَا يُطْلَبُ مِنْ نَوْعِهِ بِحَيْثُ لَوْ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِتَمْكِينٍ أَتَمَّ مِنْهُ لَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ يُشَبَّهَ بِنَفْسِهِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ النَّابِغَةِ الذبيانيِّ:
نُبِّئْتُ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ………….. تُهْدِي إِلَيَّ غَرَائِبَ الْأَشْعَارِ
وَكقَوْلِ جُزْءِ بْنِ كُلَيْبٍ الْفَقْعَسِيِّ:
تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ………… لِيَسْتَادَ مِنَّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا
فَيَكُونُ الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. وَالتَّقْدِيرُ: مَكَّنَا لِيُوسُفَ تَمْكِينًا كَذَلِكَ التَّمْكِينِ. وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ كَانَتْ لِحَاصِلِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ عُثُورُ السَّيَّارَةِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إِنْجَاءٌ لَهُ عَجِيب الْحُصُول بمصادفة عَدَمِ الْإِسْرَاعِ بِانْتِشَالِهِ مِنَ الْجُبِّ، أَيْ مَكَّنَا لِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَمْكِينًا مِنْ صُنْعِنَا، مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ الَّذِي نَجَّيْنَاهُ، فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ مَكَّنَّا. وَنَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} الآية: 108. و “ذا” اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرف الجرِّ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطابِ والجارُّ والمجرورُ صفةٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: تَمْكينًا مِثلَ ذَلِكَ التَمْكينِ السابِقِ مِنِ اجْتِبائِهِ، وإنْجائِهِ مِنَ القَتْلِ والجُبِّ. و “مَكَّنَّا” فعلٌ ماضٍ مبنيُّ على السكونِ لِاتَّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو “نا” المعظِّمِ نفسَهُ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ هذه مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و “لِيُوسُفَ” اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “مَكَّنَّا”، و “يوسُفَ” مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّه الفتحةُ نيابةً عن الكسرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصرفِ بالعلمية والعُجمةِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: “فِي الْأَرْضِ” مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
قولُهُ: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وَلِنُعَلِّمَهُ: و “وَلِنُعَلِّمَهُ” الواوُ: عاطِفَةٌ عَلى مَحْذوفٍ مُتَعَلِّقٍ بِـ “مَكَّنَّا” والتقديرُ: وكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ، لِيَنْشَأَ مِنْهُ مَا جَرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأَةِ العَزيزِ، ولِيَتَصَرَّفَ فيها بالعَدْلِ. و “لِنُعَلِّمَهُ” اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ. متعلِّقٌ بِمَحْذوفٍ قبلَهُ، أَيْ: وفَعَلْنا ذَلِكَ “لِنُعلِّمه”. ويجوزُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: ولِنُعَلِّمَهُ فَعَلْنا كيت وكيت. ويجوزُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ “مكَّنَّا” على زيادَةِ الواو. و “نُعَلِّمَهُ” فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بِ “أنْ” مُضْمَرَةً جَوازًا بَعْدَ لامِ كَيْ، وفاعلُهُ ضَميرُ المُعظِّمِ نفسَهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ “نحنُ” يَعودُ عَلَى اللهِ تعالى، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نَصْبِ مفعولِهِ الأوَّل. و “مِنْ تَأْوِيلِ” جارٌّ ومَجْرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهوَ في مَحَلِّ نصبِ المفعولِ الثاني ل “نعلم”، و “الْأَحَادِيثِ” مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللَّامِ، تقديرُهُ: وكذلك مكنَّا له في الأرض لتصرُّفه فيها بالعدل، ولتعليمنا إياه تأويلَ الأحاديث.
قولُهُ: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} الوَاوُ استئنافيّةٌ، ولفظُ الجلالةِ “اللهُ” مبتدأٌ مرفوعٌ، و “غَالِبٌ” خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و “عَلَى أَمْرِهِ” جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبرِ “غَالِبٌ”. ويجوزُ أَنْ تَعودَ الهاءُ على الجَلالَةِ، كما يَجوزُ أَنْ تَعودَ عَلى يُوسفَ، فالمَعنى عَلى الأَوَّلِ: لا نُمْنَعُ عمَّا نَشَاءَ، ولا نُنَازَعُ عَمَّا نُريدُ، وعَلَى الثاني: نُدَبِّرِهُ ولا نَكِلُهُ إِلى غَيْرِهِ، فقَد كادَهُ إِخْوَتُه فلَمْ يَضُرُّوهُ بِشَيْءٍ.
قولُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الواوُ: عاطفَةٌ، و “لكنّ” حَرْفٌ ناصِبٌ ناسخٌ للاسْتِدْراكِ، و “أكثرَ” اسْمْها مَنْصوبٌ بها، و “لا” نافيةٌ لا عملَ لها، و “يعملونَ” فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ: الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ والجمْلَةُ هذه في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ “لكنَّ”، والجُمْلَةُ الاسْتِدْراكِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com