فيض العليم …. سورة يوسف، الآية: 18
 
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
 
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أَيْ: جاءُوا فوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ، كَما تَقولُ: جاءَ عَلى جِمَالِهِ بِأَحْمالٍ، و “كَذِبٍ” أَيْ: ذِي كَذِبٍ، بِمَعْنَى مَكْذوبٍ فِيهِ، أَوْ هو وَصْفٌ بالمَصْدَرِ للمُبالَغَةِ، فَكَأَنَّهُ نَفْسُ الكَذِبِ وعَيْنُهُ، كَما تَقولُ لٍلكَذَّابِ: أَنْتَ الكَذِبُ بِعَيْنِهِ والزُّورُ بِذاتِهِ، تَقْصِدُ أنَّهُ بَلَغَ فيهِ كلَّ مَبْلَغٍ، حتَّى تخلَّلَ الكذِبُ كلَّ خليَّةٍ بحيثُ أصبحا شيئًا واحدًا، وكذا بقيَّةُ الصفاتِ من صِدْقٍ وعِلْمِ، وأَدَبٍ وغيرِها، فتقولُ للصادقِ أنتَ الصِّدْقُ، وللعالِمِ أَنْتَ العِلْمُ، وللأديبِ أنتَ الأَدَبُ، وهَكَذا. وَلَمَّا كَانَ الدَّمُ مُلَطَّخًا بِهِ الْقَمِيصُ وَكَانُوا قَدْ جَاءُوا مُصَاحِبِينَ لِلْقَمِيصِ فَقَدْ جَاءُوا بِالدَّمِ عَلَى الْقَمِيصِ.
رُوِيَ أَنَّهمْ ذَبَحوا سَخْلَةً ولَطَّخُوا القَميصَ بِدَمِهَا، وفاتَهُم أَنْ يُمَزِّقوا القميصَ لِينكُثَ اللهُ غَزْلَهم، ويُوهِنَ كيدَهم، ويَفْضَحَ كَذِبَهم. فإِنَّهم لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِهِمْ قَرَنَ اللهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُعَارِضُهَا، وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ مِنَ التَّنْيِيبِ والتمزيقِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ افْتِرَاسُ الذِّئْبِ لِيُوسُفَ وَهُوَ لَابِسٌ الْقَمِيصَ وَيَسْلَمُ الْقَمِيصُ مِنَ التَّخْرِيقِ، وَلَمَّا تَأَمَّلَ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْقَمِيصَ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ خَرْقًا وَلَا أَثَرًا اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ هَذَا الذِّئْبُ حَكِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ الْقَمِيصَ! قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
فقد أخرج عبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبَريُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: “وجاؤوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ” قَالَ: كَانَ دَمَ سَخْلَةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ “بِدَمٍ كَذِبٍ” قَالَ: كَانَ ذَلِكَ الدَّمُ كَذِبًا، لَمْ يَكُنْ دَمَ يُوسُفَ، كَانَ دَمَ سَخْلَةٍ. وَأخرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: أَخَذُوا ظَبْيًا فَذَبَحُوهُ فَلَطَّخُوا بِهِ الْقَمِيصَ فَجَعَلَ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُقَلِّبُ الْقَمِيصَ فَيَقُولُ: مَا أَرَى أَثَرَ نَابٍ وَلَا ظُفُرٍ، إِنَّ هَذَا السَّبُعَ رَحِيمٌ، فَعَرَفَ أَنَّهم كَذَبُوهُ. وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَرَيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنْ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: “وجاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَم كَذِبٍ” قَالَ: لَمَّا أُتِي يَعْقُوبُ بِقَميصِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلَامُ، فَلم يَرَ فِيهِ خَرْقًا قَالَ: كَذبْتُمْ لَو كَانَ كَمَا تَقولُونَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخُرِقَ الْقَمِيصُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لمَّا جِيءَ بِقَميصِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَعَلَ يُقَلِّبُهُ فَيَرَى أَثَرَ الدَّمِ وَلَا يَرَى فِيهِ شَقًّا وَلَا خَرْقًا فَقَالَ: يَا بَنِيَّ وَاللهِ مَا كُنْتُ أَعْهَدُ الذِّئْبَ حَلِيمًا إِذْ أَكَلَ ابْنِي وَأَبْقَى قَمِيصَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَبَحُوا جَدْيًا، ولَطَّخُوهُ بِدَمِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ يَعْقُوبُ إِلَى الْقَمِيصِ صَحِيحًا عَرَفَ أَنَّ الْقَوْمَ كَذَبوهُ فَقَالَ لَهُم: إنْ كَانَ هَذَا الذِّئْبُ لَحَلِيمًا حَيْثُ رَحِمَ الْقَمِيصَ وَلم يَرْحَمْ ابْني. ورَوَى إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: كَانَ الدَّمُ دَمَ سَخْلَةٍ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قَالَ: لَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ كَذَبْتُمْ، لَوْ كَانَ الذِّئْبُ أَكَلَهُ لَخَرَقَ الْقَمِيصَ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ فِي الْقَمِيصِ ثَلَاثَ آيَاتٍ: حِينَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، وَحِينَ قُدَّ قَمِيصُهُ مِنْ دُبُرٍ، وَحِينَ أُلْقِيَ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ فارتدَّ بَصِيرًا. وَهَذَا على فرضِ أنَّ المُرادَ القميصَ هو الجنسُ وليسَ قميصًا بعينِهِ، فَإِنَّ الْقَمِيصَ الَّذِي جَاءُوا عَلَيْهِ بِالدَّمِ غَيْرُ الْقَمِيصِ الَّذِي قُدَّ، وَغَيْرُ الْقَمِيصِ الَّذِي أَتَاهُ الْبَشِيرُ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَمِيصَ الَّذِي قُدَّ هُوَ الَّذِي أُتِيَ بِهِ يعقوبُ فَارْتَدَّ بَصِيرًا.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: بَلِ اللُّصُوصُ قَتَلُوهُ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ، فَاتَّهَمَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: تَزْعُمُونَ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَلَوْ أَكَلَهُ لَشَقَّ قَمِيصَهُ قَبْلَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى جِلْدِهِ، وَمَا أَرَى بِالْقَمِيصِ مِنْ شَقٍّ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّ اللُّصُوصَ قَتَلُوهُ، وَلَوْ قَتَلُوهُ لَأَخَذُوا قَمِيصَهُ، هَلْ يُرِيدُونَ إِلَّا ثِيَابَهُ؟! فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ} عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، أَيْ لو كانَ الصِّدْقُ مِنْ صِفَتِنَا لاتَّهَمْتَنَا. ورُوِيَ أَنَّ يَعقوبَ لَمَّا سَمِعَ بِخَبَرِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، صَاحَ بِأَعْلى صَوْتِهِ وقال: أيْنَ القَميصَ وأَخَذَهُ وأَلْقاهُ عَلَى وَجْهِهِ وبَكَى حَتَّى خُضِّبَ وجْهُهُ بِدَمِ القَميصِ وقال: تالله ما رَأَيْتُ كالْيَوْمِ ذِئْبًا أَحْلَمَ مِنْ هَذا! أَكَلَ ابْنِي ولمْ يُمَزِّقْ عَلَيْهِ قَميصَهُ. ورُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} قَالَ لَهُمْ: أَلَمْ يَتْرُكِ الذِّئْبُ لَهُ عُضْوًا فَتَأْتُونِي بِهِ أَسْتَأْنِسُ بِهِ؟! أَلَمْ يَتْرُكْ لِي ثَوْبًا أَشُمُّ فِيهِ رَائِحَتَهُ؟ قَالُوا: بَلَى! هَذَا قَمِيصُهُ مَلْطُوخٌ بِدَمِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: “وَجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ” فَبَكَى يَعْقُوبُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ، لِبَنِيهِ: أَرُونِي قَمِيصَهُ، فَأَرَوْهُ فَشَمَّهُ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَلِّبُهُ فَلَا يَرَى فِيهِ شَقًّا وَلَا تَمْزِيقًا، فَقَالَ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ذِئْبًا أَحْكَمَ مِنْهُ، أَكَلَ ابْنِي وَاخْتَلَسَهُ مِنْ قَمِيصِهِ وَلَمْ يُمَزِّقْهُ عَلَيْهِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ كَالْمُغْضَبِ بَاكِيًا حَزِينًا وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ وَلَدِي! دُلُّونِي عَلَى وَلَدِي، فَإِنْ كَانَ حَيًّا رَدَدْتُهُ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا كَفَّنْتُهُ وَدَفَنْتُهُ، فَقِيلَ قَالُوا حِينَئِذٍ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَبِينَا كَيْفَ يُكَذِّبُنَا فِي مَقَالَتِنَا! تَعَالَوْا نُخْرِجْهُ مِنَ الْجُبِّ وَنَقْطَعْهُ عُضْوًا عُضْوًا، وَنَأْتِ أَبَانَا بِأَحَدِ أعضائه فيُصَدِّقَنَا فِي مَقَالَتِنَا وَيَقْطَعُ يَأْسَهُ، فَقَالَ لهم يَهُوذَا: وَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَأَكُونَنَّ لَكُمْ عَدُوًّا مَا بَقِيتُ، وَلَأُخْبِرَنَّ أَبَاكُمْ بِسُوءِ صَنِيعِكُمْ، قَالُوا: فَإِذَا مَنَعْتَنَا مِنْ هَذَا فَتَعَالَوْا نَصْطَدْ لَهُ ذِئْبًا، قَالَ: فَاصْطَادُوا ذِئْبًا وَلَطِّخُوهُ بِالدَّمِ، وَأَوْثِقُوهُ بِالْحِبَالِ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ يَعْقُوبَ وَقَالُوا: يَا أَبَانَا! إِنَّ هَذَا الذِّئْبَ الَّذِي يَحِلُّ بِأَغْنَامِنَا وَيَفْتَرِسُهَا، وَلَعَلَّهُ الَّذِي أَفْجَعَنَا بِأَخِينَا لَا نَشُكُّ فِيهِ، وَهَذَا دَمُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: أَطْلِقُوهُ، فَأَطْلَقُوهُ، وَتَبَصْبَصَ لَهُ الذِّئْبُ، فَأَقْبَلَ يَدْنُو مِنْهُ، وَيَعْقُوبُ يَقُولُ لَهُ: اُدْنُ اُدْنُ، حَتَّى أَلْصَقَ خَدَّهُ بِخَدِّهِ، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: أَيُّهَا الذِّئْبُ! لِمَ فَجَعْتَنِي بِوَلَدِي وَأَوْرَثْتَنِي حُزْنًا طَوِيلًا؟! ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَنْطِقْهُ، فَأَنْطَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: وَالَّذِي اصْطَفَاكَ نَبِيًّا مَا أَكَلْتُ لَحْمَهُ، وَلَا مَزَّقْتُ جِلْدَهُ، ولا نَتَفْتُ شَعْرَةً مِنْ شَعَراتِهِ، واللهِ مَا لِي بِوَلَدِكَ عَهْدٌ، وَإِنَّمَا أَنَا ذِئْبٌ غَرِيبٌ أَقْبَلْتُ مِنْ نَوَاحِي مِصْرَ فِي طَلَبِ أَخٍ لِي فُقِدَ، فَلَا أَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، فَاصْطَادَنِي أَوْلَادُكَ وَأَوْثَقُونِي، وَإِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ الْوُحُوشِ، وَتَاللهِ! لَا أَقَمْتُ فِي بِلَادٍ يَكْذِبُ فِيهَا أَوْلَادُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْوُحُوشِ، فَأَطْلَقَهُ يَعْقُوبُ وَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَتَيْتُمْ بِالْحُجَّةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، هَذَا ذِئْبٌ بَهِيمٌ خَرَجَ يَتَّبِعُ ذِمَامَ أَخِيهِ، وَأَنْتُمْ ضَيَّعْتُمْ أَخَاكم، وقدْ عَلِمْتُ أَنَّ الذِئْبَ بَرئٌ مِمَّا جِئْتُمْ بِهِ.
وقد اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ كَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِسلامَةِ الْقَمِيصِ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا.
قولُهُ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} سَوَّلَتْ، أَيْ: زَيَّنَتْ وسَهَّلَتْ. والتَّسْويلُ تَقديرُ شَيْءٍ في النَّفْسِ مَعَ الطَّمَعِ في إِتْمامِهِ، وَتَزْيِينُ النَّفْسِ مَا تَحْرِصُ عَلَى حُصُولِهِ. وَالْإِبْهَامُ الَّذِي فِي كَلِمَةِ “أَمْرًا” يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَشْيَاءَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْذُوا بِهِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مِنْ قَتْلٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ تَغْرِيبٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ تَعْيِينَ مَا فَعَلُوهُ. وحَرْفُ الْإِضْرَابِ لإِبْطَال دَعْوَاهُمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ فَقَدْ صَرَّحَ لَهُمْ بِكَذِبِهِمْ. وَالتَنْكِيرُ أَيضًا لِلتَّهْوِيلِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: “بَلْ سَوَّلَتْ لكم أَنْفُسُكُم أَمْرًا” قَالَ: أَمَرَتْكُمْ أَنْفُسُكُم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: “بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُم أَمْرًا” يَقُولُ: بَلْ زَيَّنَتْ لَكمْ أَنْفُسُكُم أَمْرًا، و “فَصَبرٌ جَميلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفونَ” أَيْ: عَلَى مَا تَكْذِبونَ.
قولُهُ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أَيْ: فَأَمْرِي صَبْرٌ جَميلٌ أَوْ فَصَبْرٌ جَميلٌ أَجْمَلُ، وهوَ ما لا شَكْوَى فيهِ إِلى الخَلْقِ. وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ إِنْشَاءُ التَّصَبُّرِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ فَشَأْنِي وَالَّذِي اعْتَقَدَهُ صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَيْ فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقِيلَ: أَيْ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْلَى بِي. وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ فَقَالَ: ((هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى مَعَهُ)). وَوَصْفُ جَمِيلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا كَاشِفًا إِذِ الصَّبْرُ كُلُّهُ حَسَنٌ دُونَ الْجَزَعِ. كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كُنَيفٍ النَّبْهَانِيُّ:
تَصَبَّرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ بِالْحُرِّ أَجْمَلُ ………. وَلَيْسَ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ مُعَوَّلُ
أَيْ أَجْمَلُ مِنَ الْجَزَعِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا مُخَصَّصًا. وَقَدْ فُسِّرَ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ بِالَّذِي لَا يُخَالِطُهُ جَزَعٌ.
وَالْجَمَالُ: حُسْنُ الشَّيْءِ فِي صِفَاتِ مَحَاسِنِ صِنْفِهِ، فَجَمَالُ الصَّبْرِ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ يُقَلِّلُ خَصَائِصَ مَاهِيَّتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَن النبيَّ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، مَرَّ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ لَهَا: ((اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي))، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي ـ وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَت بَابَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)) أَيِ: الصَّبْرُ الْكَامِلُ. وذَكَرَ البُخارِيُّ ههُنا حَديثَ السيِّدةِ عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها، فِي الْإِفْكِ حَتَّى ذَكَرَ قَوْلَهَا: وَاللهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: “فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ”. كِتَابُ التَّفْسيرِ، تَفْسيرُ سُورة: 12، باب: 3. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي كتابِ الصَّبْرِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ أَبِي حِيلَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِهِ: “فَصَبرٌ جَميلٌ” قَالَ: لَا شَكْوَى فِيهِ، مَنْ بَثَّ فلَمْ يَصْبِرْ. وَأَخرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: “فَصَبرٌ جميلٌ” قَالَ: لَيْسَ فِيهِ جَزَعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَكْوَى إِلَّا إِلَى اللهِ تعالى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الإمامِ الثَّوْريِّ، عَنْ بعضِ الصَّحَابَةِ ـ رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين، قَالَ: يُقَالُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الصَّبْرِ: أَنْ لَا تُحَدِّثْ بِمَا يُوجِعُكَ، وَلَا بِمُصيبَتِكَ، وَلَا تُزَكِّي نَفْسَكَ.
قولُهُ: {وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ أَسْتَعينُ اللهَ على احْتِمالِ مَا تَصِفُونَ مِنْ هَلاكِ يُوسُفَ، والصَّبْرِ عَلى الرِّزْءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا أُعَاشِرُكُمْ عَلَى كَآبَةِ الْوَجْهِ وَعُبُوسِ الْجَبِينِ، بَلْ أُعَاشِرُكُمْ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ مَعَكُمْ، وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَنْ مُؤَاخَذَتِهِمْ. وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، فَكَانَ يَرْفَعُهُمَا بِخِرْقَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: طُولَ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْأَحْزَانِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَتَشْكُونِي يَا يَعْقُوبُ؟! قَالَ: يَا رَبِّ! خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا فَاغْفِرْ لِي.
قَالَ ابْنُ أَبِي رِفَاعَةَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الرَّأْيِ أَنْ يَتَّهِمُوا رَأْيَهُمْ عِنْدَ ظَنِّ يَعْقُوبَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو نَبِيٌّ، حينَ قالَ لَهُ بَنُوهُ: {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} قَالَ: “بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ” فَأَصَابَ هُنَا، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} قَالَ: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} فَلَمْ يُصِبْ.
وَفي التَّعْبِيرِ عَمَّا أَصَابَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السّلام، ب “مَا تَصِفُونَ” غَايَةُ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا بِأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي الصِّفَةِ وَوَاثِقًا بِأَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ضُرًّا فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَهُ الْمُصَابُ أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَنْهُ إِجْمَالًا مُوَجَّهًا لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا يَصِفُونَهُ هُوَ مَوْتُهُ بِأَكْلِ الذِّئْبِ إِيَّاهُ وَيَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُرِيدُ أَنَّ مَا يَصِفُونَهُ هُوَ الْمُصَابُ الْوَاقِعُ الَّذِي وَصَفُوهُ وَصْفًا كَاذِبًا. فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في سورةِ الصافَّات: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} الآية: 180. وَإِنَّمَا فَوَّضَ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْأَمْرَ إِلَى اللهِ وَلَمْ يَسْعَ لِلْكَشْفِ عَنْ مَصِيرِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ عَلِمَ تَعَذُّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَا عَضُدَ لَهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أَبْنَائِهِ أُولَئِكَ. وَقَدْ صَارُوا هُمُ السَّاعِينَ فِي الْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَيِسَ مِنِ اسْتِطَاعَةِ الْكَشْفِ عَنْ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِدُونِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ مِنْهُمْ فُرْصَةً لذلك أَمَرَهم بِهِ قَائلًا لَهُمُ: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية: 87، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وقد اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ كَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِسلامَةِ الْقَمِيصِ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا. واسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ كَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِسلامَةِ الْقَمِيصِ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا.
قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} وَجَاءُوا: الواوُ: للاسْتِئنافِ، أو عاطفةٌ على قولِهِ: {وما أَنْتَ بِمؤمِنٍ لَنَا} من الآية السابقةِ لهذه الآية. و “جاؤوا” فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ. و “عَلَى قَمِيصِهِ” جارٌّ متعلِّقٌ بمحذوفِ حالٍ مِنْ “دم” قالَهُ العُكْبُريُّ وأيَّدَه أبو حيان الأندلُسيُّ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الحالَ المُتَقَدِّمَةَ عَلَى المَجْرورِ بِحَرْفِ جَرٍّ أَصْلِيٍّ فِيها خَلافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ، والظاهِرُ صِحَةُ مَجيئِها كَذَلِكَ. وقيلَ هو في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الظَرْفِيَّةِ، بمعنى “فوق” والظَرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حالٍ مِنْ “دَمٍ”. قالَ الشَّيْخُ أبو حيَّان: ولا يُسَاعِدُ المَعْنَى عَلَى نَصْبِ “على” على الظَّرْفِ بمَعْنَى “فوق”، لأنَّ العاملَ فيهِ إِذْ ذَاكَ “جاؤوا” ولَيْسَ ال “فوقُ” ظَرْفًا لَهُمْ، بَلْ يَسْتَحيلُ أَنْ يَكونَ ظَرْفًا لهم. وهذا هوَ الذي رَدَدْتُ بِهِ قولَ الحُوفِيِّ: إِنَّ “على” مُتَعَلِّقَةٌ بِ “جاؤوا”. ثمَّ قالَ الشَيْخُ: وأَمَّا المِثالُ الذي ذَكَرَهُ الزَمَخْشَرْيُّ وهو “جاءَ عَلَى جِمالِهِ بِأَحْمالٍ” فيُمْكِنُ أَنْ يَكونَ ظَرْفًا للجَائي لأَنَّهُ تَمَكَّنَ الظَّرْفُ فيهِ باعْتبارِ تَبَدُّلِهِ مِنْ جَمَلٍ إِلى جَمَلٍ، وتَكونُ “بأَحْمال” في مَوْضِعِ الحالِ، أَيْ: مَضْمومًا بِأَحْمَالٍ. و “قميصِهِ” مجرورٌ بحرفِ الجرِّ “على” وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إِليْهِ، و “بِدَمٍ” جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ “جاؤوا”. و “كَذِبٍ” صِفَةُ “دَمٍ” ولكنَّهُ في تَأْويلِ مُشْتَقٍّ تقديرُهُ: مَكْذوبٍ، والتَقْديرُ: وجاؤوا بِدَمٍ حَالَةَ كَوْنِهِ فَوْقَ قَميصِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ لو تَأَخَّرَ لَكانَ صِفَةً للنَّكِرَةِ. وقدْ رَدَّ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا الوَجْهُ قال لأَنَّ حالَ المَجْرورِ لا تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ. وصَحَّحَ جَماعَةٌ جَوازَهُ وأَنْشَدوا عليهِ بيتَ طُلَيحَةَ بْنِ خُوَيْلدٍ الأَسَدِيِّ:
فَإنْ تَكُ أذَوَادٌ أصِبْنَ وَنَسْوَةٌ ………….. فَلَنْ يَذهبوا فَرْغًا بقَتْلِ حِبالِ
وكانَ حِبالُ بْنُ طُلَيْحَةَ لَقِيَ ثابِتَ بْنِ الأَفْرَمِ وعُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، وكانَ طُلَيْحَةُ تَنَبَّأَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَتَلَ ثابِتٌ وعُكَّاشَةُ حِبَالًا، فجاءَ الخَبَرُ إِلى طُلَيْحَةَ، فتَبِعَهُما وقَتَلَهُما، وقَال:
فَإنْ تَكُ أذَوَادٌ أصِبْنَ وَنَسْوَةٌ …………. فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ
وَمَا ظَنُّكم بالقَوْمِ إذْ تَقْتُلُونَهُ …………. أَلَيْسُوا وَإنْ لَمْ يُسْلِمُوا بِرِجَالِ
عَشَيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَفْرَمَ ثَاوِيًا …………… وَعُكَّاشَةَ الغَنميَّ عَنْهُ بِحَالِ
ومنه قوْلُ المجنونِ قيسِ بْنِ المُلوَّحِ:
لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادِيًا ……………. إليَّ حبيبًا إنَّها لحبيبُ
ونُسِبَ لكلٍّ مِنْ قيسِ بْنِ ذِريحٍ، وعُرْوَةَ بْنِ حِزَامٍ، ومِنْهُ أيضًا، ومِنْ ذَلِكَ قولُ
مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شَغَفَتْ وَإِنَّمَا …………. حَتَمَ الْفِرَاقُ فَمَا إِلَيْكَ سَبِيلُ
أَيْ: شَغَفَتْ بِكَ مَشْغُوفَةً، وَقَالَ آخَرُ:
غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْ ……………….. ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ
أَيْ: وَتَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ غَافِلًا. وَإِذَا جَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْمَجْرُورِ وَالْعَامِلِ، فَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ دُونَ الْعَامِلِ أَجْوَزُ.
وقال الحوفيُّ: إنَّ “عَلى قَميصِهِ” مُتَعَلِّقٌ بِ “جاؤوا”، وفيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ مجيئَهم لا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ عَلَى القَميصِ. وهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ، جملةُ: “جاؤوا” إمَّا جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ معطوفة على جملةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ هي جملةُ: {ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لنا} مِنَ الآيةِ السابقةِ، على كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً، وفي الحالينِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ على آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ “هو” يَعودُ عَلَى “يَعْقُوبَ” ـ عليهِ السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و “بَلْ” حَرْفُ ابْتِداءٍ وإِضْرابٍ إِبْطالِيٌّ. و “سَوَّلَتْ” فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وتاءُ تَأْنيثِ الفاعِلِ الساكِنَةُ لا محلَّ لها. و “لَكُمْ” جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَّلِّقٌ بِهِ. و “أَنْفُسُكُمْ” فاعلٌ مرفوعٌ مضافٌ و “كم” ضميرُ المُخاطَبينَ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ. “أَمْرًا” مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ “قَالَ”. وقبلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ جُمْلَةٌ مَحْذوفَةٌ والتَقديرُ: لَمْ يَأْكُلْهُ الذِّئْبِ، بَلْ سَوَّلَتْ.
قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ. و “صبرٌ” خَبَرٌ لمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، تَقديرُهُ: فَصَبْرِي صَبْرٌ جَميلٌ، أو: صَبْرٌ جَميلٌ أَمْثَلُ بِي. وهلْ يَجِبُ حَذْفُ مُبْتَدَأِ هَذا الخَبَرِ أَوْ خَبَرِ هَذا المُبْتَدَأِ؟ وضابِطُهُ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا في الأَصْلِ بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِفِعْلِهِ، وعِبَارَةُ بَعْضِهم تَقْتَضِي الوُجُوبَ، وعِبَارَةُ آخَرينَ تقتضي الجَوازَ. ومِنَ التَصْريحِ بِخَبَرِ هذا النَّوعِ. ولكنَّهُ في ضَرورةُ شِعْرٍ قولُ عمرَ بْنِ ربيعةَ:
فقالَتْ عَلى اسْمِ اللهِ أَمْرُكَ طاعةٌ …… وإنْ كُنْتُ قَد ْكُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ
وقولُ المُلَبّدُ بْنُ حَرمَلَةَ الشَيْبانيُّ الرجزُ:
يَشْكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى …………. صَبْرٌ جميلٌ فكِلانَا مُبْتَلَى
فيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مُبْتَدًأ أَوْ خَبَرًا كَمَا تَقَدَّمَ. و “جَمِيلٌ” صِفَةُ “صبرٌ”، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ “سَوَّلَتْ” و “وَاللهُ” مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ، و “الْمُسْتَعَانُ” خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: “فَصَبْرٌ جَمِيلٌ” و “عَلَى” حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ “الْمُسْتَعَانُ”، و “مَا” اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. و “تَصِفُونَ” فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه ثبوتُ النونِ في آخرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ: واوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ “ما” أَوْ صِفَةٌ لَهَا، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ تَقديرُهُ: عَلى مَا تَصِفونَهُ.
وقرأ العامَّةُ: {كَذِبٍ} بالذالِ المُعْجَمَةِ، وهوَ مِنَ الوَصْفِ بالمَصادِرِ، فيُمْكِنُ أَنْ يَكونَ على سَبيلِ المُبالَغَةِ نَحوَ: رجلٌ عَدْلٌ، أَوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: ذِي كَذِبٍ، نَسَبَ فِعْلَ فاعِلِهِ إِلَيْهِ. وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ “كَذِبًا” فاحْتَمَلَ أَنْ يَكونَ مَفعولًا مِنْ أَجْلِهِ، واحْتَمَلَ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا في مِوْضِعِ الحالِ، وهوَ قَليلٌ، أَعْني مَجيءَ الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ. وقرأَتَ السيِّدةُ عائِشَةُ، والحَسَنُ: “كَدِبٍ” بالدالِ المُهْمَلَةِ. ومعناهُ: ذِي كَدِبٍ، أَيْ: أَثَرٍ؛ لأنَّ الكَدِبَ هوَ بَياضٌ يَخْرُجُ في أَظَافِيرِ الشَبَابِ ويُؤَثِّرُ فيها، فهو كالنَّقْشِ، ويُسمَّى ذَلكَ البياضُ “الفُوْف” فيكونَ هَذا اسْتِعَارَةً لِتَأْثيرِهِ في القَميصِ كَتَأْثيرِ ذَلِكَ في الأَظافيرِ. وقيلَ: هوَ الدَمُ الكَدِرُ. وقيلَ: الطَرِيُّ. وقيلَ: اليابِسُ.
وقرأَ العامَّةُ: {فصبرٌ جميلٌ} وقد تقدَّمَ توجيهُهُ في الإعراب، وقرأَ أُبَيٌّ ـ رضي اللهُ عنه، وعيسى بْنُ عُمَرَ: “فصبرًا جَميلًا” بالنَّصبِ، ورُوِيَتْ عَنِ الكِسائيِّ، وكذلكَ هي في مُصحَفِ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ، وتَخْريجُها عَلَى المَصْدَرِ الخَبَرِيِّ، أَيْ: أَصْبِرُ أَنَا صَبْرًا، وهذِهِ قِراءَةٌ ضَعيفَةٌ إِنْ خُرِّجَتْ هذا التَّخْريجَ، فإنَّ سِيبَوَيْهِ لا يَنْقاسُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إلاَّ في الطَّلَبِ، فالأَوْلى أنْ يُجعَلَ التَقديرُ: إِنَّ يَعْقوبَ رَجَعَ وأَمَرَ نَفْسَهُ فَكَأَنَّهُ قالَ: اصْبِري يا نفسُ صَبْرًا. وقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فِيمَا زَعَمَ سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ “فَصَبْرًا جَمِيلًا” قَالَ: وَكَذَا قَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ، قَالَ وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أَنَسٍ وَأَبِي صَالِحٍ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: “فَصَبْرٌ جَمِيلٌ” بِالرَّفْعِ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: قَالَ رَبِّ عِنْدِي صَبْرٌ جَمِيلٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ “فلَأصْبِرَنْ صَبْرًا جَميلًا، كما قال الشاعرُ:
شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ………….. صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مُبْتَلَى
وقد تقدَّمَ.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com