فيض العليم …. سورة يوسف، الآية: 16
 
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
 
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً} عِشاءً: أيْ آخِرَ النَّهَارِ. وَإِنَّمَا جَاءُوا عِشَاءً للاسْتِتارِ وليُخْفوا وُجوهَهم مِنْ تَفَرُّسِهِ الكَذِبَ فيها، ولِيَكُونُوا أَقْدَرَ عَلَى الِاعْتِذَارِ فِي الظُّلْمَةِ، وَلِذَا قِيلَ: لَا تَطْلُبِ الْحَاجَةَ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّ الْحَيَاءَ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَلَا تَعْتَذِرْ بِالنَّهَارِ مِنْ ذَنْبٍ فَتَتَلَجْلَجَ فِي الِاعْتِذَارِ.
قولُهُ: {يَبْكُونَ} أَيْ: مُتَبَاكينَ، مُتَصَنِّعِيِّ البُكاء. لِيُوهِمُوا، بِبُكائهم وتَفَجُّعِهم عَلَيْهِ، إِفراطَ مَحَبَّتِهمْ لَهُ المَانِعَةِ مِنْ الجُرْأَةِ عَلى إيذائه. ولِهَذَا قالَ الأَعْمَشُ لا تُصَدِّقْ باكِيَةً بَعْدَ إِخْوَةِ يُوسُفَ. وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَحَاكَمَتْ إِلَى شُرَيْحٍ القاضي فَبَكَتْ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ مَا تَرَاهَا تَبْكِي؟ قَالَ: قَدْ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ يَبْكُونَ وَهُمْ ظَلَمَةٌ كَذَبَةٌ، لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْضِيَ إِلَّا بِالْحَقِّ. وربَّما كان بَعْضُهم صادقًا في بكائهِ نَدَمًا عَلَى ما ارتكبَ مِنْ إثمٍ، وقد أَحَسَّ بِفَظَاعَةِ ما اقترفوا، خًصوصًا عِنْدَمَا رأوا ما حلَّ بِأَبيهم مِنْ ألمِ الثُّكْلِ وعذابِهِ.
وفيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ دائمًا عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَإنَّ مِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ المُتَنَبِّي:
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ ………….. تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
وقبله:
وفي الأَحْبابِ مَخْصوصٌ بِوَجْدٍ …………… وآخَرُ يَدَّعِي مَعَهُ اشْتِرَاكَا
وبعده:
فأمَّا مَنْ بَكَى فَيَذُوبُ وَجْدًا ………….. ويَنْطِقُ بالهَوَى مَنْ قَدْ تَشَاكَا
فَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ بُكَاءَهُمْ قَالَ: مَا بِكُمْ؟ أَجْرَى في الغَنَمِ شَيْءٌ؟. قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَيْنَ يُوسُفُ؟. قَالُوا: ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَبَكَى وَصَاحَ وَقَالَ: أَيْنَ قَمِيصُهُ؟. فَطَرَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى تَخَضَّبَ وَجْهُهُ مِنْ دَمِ الْقَمِيصِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالُوا أَكَلَهُ الذِّئْبُ، خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَأَفَاضُوا عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَنَادَوْهُ فَلَمْ يُجِبْ، قَالَ وَهْبٌ: وَلَقَدْ وَضَعَ يَهُوذَا يَدَهُ عَلَى مَخَارِجِ نَفَسِ يَعْقُوبَ فَلَمْ يُحِسَّ بِنَفَسٍ، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ عِرْقٌ، فَقَالَ لَهُمْ يَهُوذَا: وَيْلٌ لَنَا مِنْ دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ! ضَيَّعْنَا أَخَانَا، وَقَتَلْنَا أَبَانَا، فَلَمْ يُفِقْ يَعْقُوبُ إِلَّا بِبَرْدِ السَّحَرِ، فأَفاقَ ورَأْسُه فِي حِجْرِ رُوبِيلَ، أو يهوذا، فَقَالَ له: أَلَمْ أَأْتَمِنُكَ عَلَى وَلَدِي؟. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكَ عَهْدًا؟ فَقَالَ: يَا أَبَتِ كُفَّ عَنِّي بُكَاءَكَ أُخْبِرْكَ، فَكَفَّ يَعْقُوبُ بُكَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَتِ {إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}.
وفي الآيةِ نَقْضٌ لقولِ المُعْتَزِلَةِ في صاحِبِ الصَّغيرةِ أَنْ لا تَعْذيبَ عَلَيْهِ، وفي صاحِبِ الكَبيرَةِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الإيمانِ، كَمَا فيها نَقْضٌ لقوْلِ الخَوارِجِ في أَنَّ مُرْتَكِبَ الكبيرِةِ أَوِ الصغيرَةِ كافرٌ مُشْرِكٌ. لأنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ هَمُّوا بِقَتْلِ يُوسُفَ، وطَرَحوهُ في الجُبِّ، ولا يَخْلو ذَلِكَ مِنْهم: إِمَّا أَنْ تَكونَ صَغيرةً أَوْ كَبيرةً، فإنْ كانَتْ صَغيرَةً فَقَدِ اسْتَغْفَروا اللهَ عَلَيْها بِقَوْلِهم: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} سورة يوسف، الآية: 97؛ فدَلَّ على أَنَّهم إِنَّما طَلَبُوا المَغْفِرةَ لَمَّا خافُوا العَذَابَ عَلَيْها. وإِنْ كانَتْ كَبيرَةً فلْم يَخْرُجوا مِنَ الإيمانِ؛ حَيْثُ صَارُوا مِنْ بَعْدُ قومًا أَنْبَياءَ وصاروا قومًا صالِحينَ؛ حَيْثُ قالُوا في الآيَةِ التاسِعةِ السابِقَةِ: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.
قولُهُ تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} الواوُ: استئنافيَّةٌ، و “جَاءُوا” فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ للتفريق. و “أَبَاهُمْ” مَفعولٌ بهِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الألفُ لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخمسةِ، وهو مُضافٌ، وضميرُ جماعة الغائبينَ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و “عِشَاءً” مَنْصوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِ “جاءوا” وهذا الظَرْفٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. و “يَبْكُونَ” فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ “جاءوا”.
قرأَ الجمهورُ: {عِشاءً}، وقرأَ الحَسَنُ البَصريُّ ـ رضي اللهُ عنهُ: “عُشَا” جَمْعُ “عاشٍ” على وَزْنِ دُجَى، نحوَ: غازٍ وغُزاةٍ، ثُمَّ حُذِفَ منْهُ تَاءُ التَأْنيثِ، كَمَا حَذَفوها مِنْ “مَأْلُكَةٍ”، فقالوا: مَأْلُكٍ، كما قالَ عَدِيُّ بْنُ زيدٍ:
أَبْلِغِ النُّعْمانَ عَنِّي مَأْلُكًا ……………… أَنَّهُ قدْ طالَ حَبِسي وانْتِظاري
قال أَبو الفَتْحِ عثمانُ بْنُ جِنِّي: وكانَ قِياسُهُ عُشاةً، ك “ماشٍ” ومُشاةٍ، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الهاءَ تَخْفِيفًا وهوَ يُريدُها، وقرأَ الحَسَنُ أَيضًا “عُشِيًّا” بالتَّصغيرِ. وقالَ أَبو البَقاءِ: ويُقْرَأُ بِضَمِّ العَيْنِ، والأَصْلُ: “عُشاةٌ” مِثْل “غازٍ” و “غُزاة”، فَحُذِفَتْ الهاءُ وزِيْدتِ الأَلِفُ عِوَضًا مِنْها، ثمَّ قُلِبَتِ الأَلِفُ هَمْزَةً. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ جمْعَ “فاعِلٍ” على وزنِ “فُعال”، كما جُمع “فَعيل” على “فُعال” لِقُرْبِ ما بَيْنَ الكَسْرِ والضَّمِّ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ كَ “نُؤام” و “رُباب” وهوَ شَاذٌّ. وهيَ مِنَ العِشْوَةِ والعُشْوَةِ، وهيَ الظَّلامُ.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com