فيض العليم … سورة الأعراف، الآية: 46


وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ

(46)

قولُهُ ـ جَلَّ شأنُهُ: {وَبَيْنَهُما حِجابٌ} أَيْ بَيْنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ ـ لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمَا ـ أو بين الفريقين: فريقِ الجَنَّةِ، وفريقِ السَعيرِ، والحجابُ: الحاجزُ، أَوِ السُوْرُ. وَهُوَ السُّورُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي الآيةِ /13/ من سورةِ الحديد، بقَوْلِهِ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ}. وهو الأعرافُ الذي قالَ اللهُ ـ تعالى ـ فيه: “وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ”. وقد ذَكَرَ تَعَالَى في الآيةِ السابقةِ خطَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لأَهْلِ النَّارِ، فنَبَّهَ في هذه الآيةِ، إلى أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حِجَابًا، وَهُوَ الْحَاجِزُ الْمَانِعُ مِنْ وُصُولِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ. فقد روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ بسنَدِهِ عن السُّدِّيِّ: أنَّ “وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ” هو السُّورُ وَهُوَ الْأَعْرَافُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَعْرَافُ حِجَابٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ سُورٌ لَهُ بَابٌ. وذلك الحجابُ الذي بينَهُما حَصَلَ مِنَ الحِجابِ السَابِقِ الذي كان بين الفريقين في الحياة الدنيا؛ فلمَّا حُجِبُوا في الابتداءِ في سابقِ القِسْمَةِ عمَّا خُصَّ بِهَ المُؤمنون مِنَ القُرْبَةِ والزُلْفَةِ حُجِبوا في الانْتِهاءِ عَمَّا خُصَّ بِه السُعَداءُ مِنَ المَغْفِرَةِ والرَحْمَةِ. وأَيُّ حِجابٍ! إنَّه حجابٌ سَبَقَ بِهِ الحُكْمُ، لا يُرفَعُ بِحيلةٍ ولا تَنْفَعُ مَعَهُ وَسيلةٌ.

قولُهُ: {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ} أَيْ عَلَى أَعْرَافِ السُّورِ، وَهِيَ شُرَفُهُ. وَمِنْهُ عُرْفُ الْفَرَسِ وَعُرْفُ الدِّيكِ. وَالْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ، وَكُلُّ مُرْتَفَعٍ مِنَ الْأَرْضِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُسَمَّى عُرْفًا، وَإِنَّمَا قيل لِعُرْفِ الديكِ عُرْفاً لارْتِفاعِهِ. كأنَّه عُرِفَ بارْتِفاعِهِ دونَ الأشياءِ المُنْخَفِضَةِ فإنَّها مجهولةٌ غالباً، قالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبي الصَّلْتِ:

وآخرون على الأعراف قد طَمِعوا …… في جنة حَفَّها الرمَّانُ والخَضِرُ

ومثله أيضاً قوله :

كلُّ كِنازِ لَحْمِه نيافِ …………….. كالجبلِ المُوْفِي على الأعرافِ

وقال الشماخ :

فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنها ………… رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكز

وعنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رضي الله عنهما: هو سُورٌ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ إِنَّمَا سُمِّيَ الْأَعْرَافُ أَعْرَافًا لِأَنَّ أَصْحَابَهُ يَعْرِفُونَ النَّاسَ، ورَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ الشَّيْءُ الْمُشْرِفُ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِه أيضاً أَنَّهُ قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: سَأَلْتُ الْكِسَائِيَّ عَنْ وَاحِدِ الْأَعْرَافِ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَعْرَافُ سُورٌ لَهُ عُرْفٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ. فَقَالَ: نَعَمْ وَاللهِ، وَاحِدَهُ يَعْنِي، وَجَمَاعَتُهُ أَعْرَافٌ، يَا غُلَامُ، هَاتِ الْقِرْطَاسَ، فَكَتَبَهُ. وَهذا كلامٌ قد خرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ، فهو كَمَا قَالَ تعالى في سورةِ النور: {رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} الآية: 37. فامْتَدَحَهم بِذلِكَ وأَثْنى عليهم. هؤلاءِ الأشرافُ خُصُّوا بأنوارِ البَصائرِ اليومَ فأشْرَفوا على مقاديرِ الخَلْقِ بِأَسْرارِهم، ويُشرِفون غَداً على مَقاماتِ الكُلِّ وطَبَقاتِ الجَميعِ بِأبْصارِهِم. ويُقالُ يَعرِفونَهم غَداً بِسيماهُمُ التي وَجدوهم عليها في دُنياهم؛ فأَقْوامٌ مَوْسومونَ بأنوارِ القُرْبِ، وآخرون مَوْسومون بأنوارِ الرَدِّ والحَجْبِ. و”رجال” يُفيدُ أَنَّهم لَيْسوا ملائكةً؛ لأنَّ الملائكةَ لَا يُعَبَّرُ عَنْهم بِرجالٍ، فليسوا ذُكوراً ولا إناثاً.

وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ فذكروا عَشَرَةَ أَقْوَالٍ: فقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُبَيْرٍ ـ رضي اللهُ عنهم: هُمْ قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ. وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي مُسْنَدِ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ (فِي آخِرِ الْجُزْءِ الْخَامِسَ عَشَرَ) حَدِيثٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ صُؤابةٍ (بيضةُ القَمْلَةِ) دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مثقالَ صُؤابَةٍ دَخَلَ النّارَ)). قيل: يا رسولَ اللهِ، فَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؟ قَالَ: ((أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ)). وأَخْرَجهُ أَبو الشَيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِر.

قولُهُ: {لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ. وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقِيلَ هُمْ فُضَلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالشُّهَدَاءِ، فَرَغُوا مِنْ شَغْلِ أنفسهم، وتفرغوا لِمُطالَعَةِ حالَ النّاسِ، فإذا رَأَوْا أَصْحَابَ النَّارِ تَعَوَّذُوا بِاللهِ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى النَّارِ، فَإِنَّ فِي قُدْرَةِ اللهِ كُلَّ شيءٍ، وَخِلَافُ الْمَعْلُومِ مَقْدُورٌ. فَإِذَا رَأَوْا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ يَرْجُونَ لَهُمْ دُخُولَهَا. وَقَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ: هُمُ الْمُسْتَشْهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عُصَاةً لِآبَائِهِمْ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّهُ تَعَادَلَ عُقُوقُهُمْ وَاسْتِشْهَادُهُمْ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ فِي قولهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: “وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ” قَالَ: الْأَعْرَافُ مَوْضِعٌ عَالٍ عَلَى الصِّرَاطِ، عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، يَعْرِفُونَ مُحِبِّيهِمْ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ وَمُبْغِضِيهِمْ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ، وقاله الضحاكُ كذلك. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ أَنَّهُمْ عُدُولُ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَهُمْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ، وَقَالَ: وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهِ، فَهُمْ عَلَى السُّورِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وأخرجَ البيهَقِيُّ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، وابنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبو الشيخ، والطَبرانيُّ، وغيرُهم أَّنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ سُئلَ عنْ أَصحابِ الأَعرافِ فقال: ((هُمْ أُناسٌ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ بمَعْصِيَةِ آبائِهم فمَنَعَهم مِنْ دُخولِ الجَنَّةِ مَعصيةُ آبائهم، ومَنَعَهم مِنْ دُخولِ النَّارِ قتلُهم في سبيلِ الله)). وقيلَ: هُمْ أُناسٌ رَضِيَ عَنْهُم أَحَدُ أَبَوَيْهم دونَ الآخَرِ. وقال الحَسَنُ البَصْرِيُّ: إنَّهم قومٌ كان فيهم عَجَبٌ. وقال مُسلم بْنُ يَسار: هُم قومٌ كان عليهم دَيْنٌ، وقيلَ: هُمْ أَهْلُ الفَترةِ، وقيلَ: هم أَوْلادُ المُشركين، وفي روايةٍ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أَنَّهم أَوْلادُ الزِنا، وعنْهُ أَيضاً أَنَّهم مَساكينُ أَهْلِ الجَنة. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُمْ قَوْمُ أَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ كَانَتْ لَهُمْ صَغَائِرُ لَمْ تُكَفَّرْ عَنْهُمْ بِالْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ كَبَائِرُ فَيُحْبَسُونَ عَنِ الْجَنَّةِ لِيَنَالَهُمْ بِذَلِكَ غَمٌّ فَيَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ صَغَائِرِهِمْ. وَتَمَنَّى سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ. وَقِيلَ: هُمْ أَوْلَادُ الزِّنَا، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُمْ مَلَائِكَةٌ مُوَكَّلُونَ بِهَذَا السُّورِ، يُمَيِّزُونَ الْكَافِرِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، ذَكَرَهُ أَبُو مِجْلَزٍ. فَقِيلَ لَهُ: لَا يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ رِجَالٌ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ ذُكُورٌ وَلَيْسُوا بِإِنَاثٍ، فَلَا يَبْعُدُ إِيقَاعُ لَفْظِ الرِّجَالِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أُوقِعَ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ} فَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ يَعْرِفُونَ المؤمنين بعلاماتهم والكفار بعلاماتهم، فيبشرون المؤمنين فبدخولهم الْجَنَّةَ وَهُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ فَيَطْمَعُونَ فِيهَا. وَإِذَا رَأَوْا أَهْلَ النَّارِ دَعَوْا لِأَنْفُسِهِمْ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّازِمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَأَخَّرُ دُخُولُهُمْ وَيَقَعُ لَهُمْ مَا وُصِفَ مِنَ الاعتبارِ في الفريقين. أَيْ بِعَلَامَاتِهِمْ، وَهِيَ بَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا فِي أَهْلِ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ حَيِّزِ هَؤُلَاءِ وحَيِّزِ هؤلاءِ.فَوُقِفَ عَنِ التَّعْيِينِ لِاضْطِرَابِ الْأَثَرِ وَالتَّفْصِيلِ، وَاللهُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ عَلِيمٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْأَعْرَافُ جَمْعُ عُرْفٍ وَهُوَ كُلُّ عَالٍ مُرْتَفِعٍ، لِأَنَّهُ بِظُهُورِهِ أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْخَفِضِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما: الأعرافُ شُرَفُ الصِّرَاطِ. وَقِيلَ: هُوَ جَبَلُ أُحُدٍ يُوضَعُ هُنَاكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَكَرَ الزَّهْرَاوِيُّ حَدِيثًا أَنَّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: ((إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْثُلُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يُحْبَسُ عَلَيْهِ أَقْوَامٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ هُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). وَذَكَرَ حَدِيثًا آخَرَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: (( إِنَّ أُحُدًا عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ)). وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ)).

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ نَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ. “أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ” أَيْ قَالُوا لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. سَلِمُوا اليومَ عَنِ النُكْرَةِ والجُحودِ، وأُكْرِمُوا بالعِرفانِ والتَوحيدِ، وسَلِموا غَداً مِنْ فُنون الوَعيدِ، وسَعِدُوا بِلَطائِفِ المَزيدِ. وتحقَّقوا أَنَّهم بَلَغوا مِنَ الرُّتَبِ ما لَمْ يَسْمُ إليه طرْفُ تَأْميلِهم، ولَمْ يُحِطْ بتفصيلِهِ كُنْهُ عُقولِهم. وَقِيلَ: الْمَعْنَى سَلِمْتُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ. لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يطعمون أَيْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، أَيْ لَمْ يَدْخُلُوهَا بَعْدُ. “وَهُمْ يَطْمَعُونَ” عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا. لأنهم من أهل لا إله إلا اللهُ فهم لم يَدْخُلوا الجَنَّةَ بَعْدُ، ولكنّهم يَطمعون بِدُخولَها لَعِلْمِهم أنَّ كلَّ مَنْ قالَ: “لا إله إلاَّ اللهُ محمّدٌ رسولُ اللهِ” دَخَلَ الجَنَّةَ، كما أَخْبَرَ الصادقُ المَصْدوقُ ـ صلى الله عليه وعلى آلِ بيتِه وصحبه وسلَّم. وقد قالوها في الدنيا، لذلك فهم يطمعون بأنْ يَدْخُلوها اليومَ بِفَضْلِ اللهِ وعَفْوِهِ. وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ طَمِعَ بِمَعْنَى عَلِمَ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، فالطمعُ هُنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ على بابِهِ، ويحتمَلُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنى اليَقين، لِقولِه تعالى حكايةً عن إبراهيم ـ عليه الصلاةُ والسّلامُ ـ في سورة الشعراء: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لي خطيئتي يومَ الدين} الآية: 82. وطمعُهُ ـ عليْه السلامُ ـ يقينٌ بالله تبارك وتعالى. ومِنْ ذلك قولُ الشاعر:

وإني لأطمعُ أنَّ الإِلهَ ………………….. قديرٌ بحسْنِ يَقيني يَقيني

وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، أَيْ قَالَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بَعْدُ وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمَارِّينَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ.

وقال بعضُهم: جملةُ “لم يدخلوها” مِنْ كلامِ أَصْحابِ الجَنَّةِ، وجُملةُ قولِهِ: “وهُم يَطْمَعون” مِنْ كلامِ الملائكةِ. قال عطاءٌ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم: إنَّ أَصحابَ الأَعْرافِ يُنادُون أَصحابَ الجَنَّةِ بالسلامِ، فيردُّون عليهم السَّلامَ، فيقولُ أَصْحابُ الجَنَّةِ للخَزَنَةِ: ما لأَصْحابِنا على أَعْرافِ الجَنَّةِ لم يَدْخُلوها؟ فيَقولُ لهمُ الملائكةُ جواباً لهم “وهم يطمعون”، وهذا يَبْعُدُ صِحَّتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ لا يُلائمُ فَصاحَةَ القُرآنِ.

وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: “سَلامٌ عَلَيْكُمْ”. وَعَلَى قَوْلِهِ: “لَمْ يَدْخُلُوها”. ثُمَّ يَبْتَدِئُ “وَهُمْ يَطْمَعُونَ” عَلَى مَعْنَى وَهُمْ يَطْمَعُونَ فِي دُخُولِهَا. أو لَمْ يَدْخُلْهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمَارُّونَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ طَامِعِينَ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا غَيْرَ طَامِعِينَ فِي دُخُولِهَا، فَلَا يُوقَفُ على “لَمْ يَدْخُلُوها”.

قوله تعالى: {وبينَهُما حجابٌ} و: اسْتِئْنافيَّةٌ، “بين” ظَرْفُ مَكانٍ،

مفعولٌ فيه، مَنْصوبٌ، مُتَعَلِّقٌ بخبَرٍ مُقَدَّمٍ، وهو مضافٌ، و”ه” ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إليْه، و”ما” للتَثنيةِ. “حجاب” مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ على آخرهِ. وهذه الجملةُ الاسميَّةُ استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.

قولُهُ: {وعلى الأعراف رجالٌ} و: عاطفةٌ، “على الأعرافِ” جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقدَّمٍ. و”رجالٌ” مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، مرفوعٌ، وعلامةُ رفعه الضمُّ الظاهرُ. وهذه الجملة الاسميَّةُ معطوفةٍ على سابقتها فلا محلَّ لها من الإعرابِ كذلك.

قولُه: {يعرفون كلّاً بِسيماهم} يعرفون: فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ بثبوتِ النون لأنَّه من الأفعالِ الخمسة، وفاعلُه الواوُ الدالَّةُ على الجماعة المتصلة به. “كلّاً”مفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامَةُ نصبِهِ الفتحُ الظاهرُ على آخره، “بسيما” جارٌّ ومَجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ “يعرفون” وعلامةُ الجَرِّ الكَسْرَةُ المُقَدَّرَةُ على الألِفِ للتعذُّرِ وهو مضافٌ. و”ه” ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليه. وهذه الجملة في محلِّ رفعٍ نعتاً لـ “رجال”.

قولُهُ: {ونادَوْا أصحابَ الجَنَّةِ} و: عاطِفَةٌ، “نادوا” فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ المُقَدَّرِ على الأَلِفِ المَحذوفةِ لالْتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وفاعلُه واو الجماعةِ المتصلةُ به، والألفُ للتفريق بين واو الجماعة والواو التي هي من أصل الكلمة. “أصحاب” مفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نصبِه الفتحةُ الظاهرةُ، وهو مضافٌ، “الجنّة” مُضافٌ إليْهِ مَجْرورٌ، وعلامةُ جرِّه الكسرةُ الظاهرةُ على آخره. وهذه الجملةُ إمّا معطوفةٌ على جملة “نادوا” فهي في محلِّ رفعٍ أو هي استئنافٌ لا محلَّ لها من الإعراب.

قولُهُ: {أنْ سَلامٌ عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون} أَنْ سَلامٌ: مِثْلُ “أنْ لَعنةُ” في الآية: (44)، من هذِهِ السُورةِ، وجازَ بالابْتِداءُ بالنَكِرَةِ لأنَّها دالَّةٌ على عُمومٍ ففيها مَعْنى الدُعاءِ. “على” حرفُ جَرٍّ، و”ك” ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفِ خبرٍ للمُبْتَدَأِ سَلامٌ، و”م” الميم علامة المذكر، “لم” حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ، “يدخلوا” مُضارعٌ مَجْزومٌ وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النون لأنَّهُ من الأفعال الخمسةِ وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ و”ها” ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نصبِ مفعولٍ بِه. و”وهم” الواوُ: استئنافيّةٌ “هم” ضميرٌ مُبْتَدَأٌ و”يطمعون” مثل يعرفون. وفي محلِّ هذه الجملة من الإعرابِأَوْجُهٌ، أَحَدُها: أنَّها حالٌ مِنْ فاعلِ “نادوا“، أيْ: نادى أَهْلُ الأَعْرافِ حالَ كونِهم غَيْرَ داخلينَ الجَنَّةِ. وقولُهُ “وهم يطمعون” يُحْتَمَلُ أنْ يكون حالاً مِنْ فاعلِ “يَدْخلُوها” وإذ ذاك ثمَّةَ اعتبارانِ، الأوَّلُ: أَنْ يكونَ المعنى: لَمْ يَدْخُلوها طامعينَ في دُخولِها، بلْ دَخَلوها على يَأْسٍ مِنْ دُخولِها. والثاني: أنَّ المعنى: لمْ يَدْخُلوها حالَ كونِهم طامعينَ، أيْ: لم يَدخلوا بَعْدُ، وهم في وقتِ عدمِ الدُخولِ طامعونَ بدخولها، وقد تقدَّم. ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ مُستَأْنَفَاً، أَخْبَرَ عنهم بأنَّهم طامعون في الدخولِ.الوجهُ الثاني: أَنْ يَكونَ حالاً مِنْ مَفعولِ “نادوا” أي: نادَوهم حالَ كونِهم غيرَ داخلين. وقولُهُ: “وهم يَطْمَعون” على ما تقدَّمَ آنِفاً. والوجْهُ الثالث: أنْ تَكونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ صفةً لِرِجالٍ قالَهُ الزَمَخْشَرَيُّ. وفيهِ ضَعْفٌ مِنْ حيثُ إنَّهُ فَصَلَ فيهِ بَيْنَ المَوصوفِ وصِفَتِهِ بِجُمْلَةِ: “ونادَوا” وليستْ جُمْلةَ اعْتِراضٍ. ووجهٌ رابعٌ: أَنَّها لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرابِ لأنَّها جوابُ سائلٍ سَأَلَ عَنْ أَصْحابِ الأَعرافِ فقال: ما صُنِعَ بهم؟ فقيل: لم يَدخُلوها وهم يَطْمَعونَ في دُخُولِها.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com