فيض العليم … سورة النساء، الآية: 136 ـ 137 ـ 138 ـ 139 ـ 140


 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً

(136)

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} آمَنُواْ: أخلَصوا الإيمان، والمُرادُ ازْدادوا في الإيمان طُمأنينَةً ويَقينًا، أو: آمِنوا بما ذَكَرَ مُفصَّلاً بناءً على أنَّ إيمانَ بعضِهم إجْماليٌّ، أي: داوِموا على الإِيمان، أو يُراد بالذين آمنوا جميعُ الناس، وذلك يوم أخذ عليهم الميثاقَ .وأيًّا ما كان فلا يَلزَمُ تحصيلُ الحاصِلِ، وقيل: الخِطابُ للمُنافقين المُؤمنين ظاهرًا. وقد نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا أَقِيمُوا عَلَى تَصْدِيقِكُمْ وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ. “وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ” أَيِ الْقُرْآنُ الكريم، وقد قالَ: “نزَّل” لأنه نَزَلَ منجَّمًا مُفَرَّقًا بِخِلافِ الكُتُبِ قبلَه. “وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ” أَيْ كُلُّ كِتَابٍ أَنْزَلَ عَلَى نبيٍّ من النَّبِيِّينَ الذين أرسلوا قبل نبينا محمد ـ عليه وعليهم جميعًا الصلاةُ والسلام. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ آمَنَ بِمَنْ تَقَدَّمَ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ـ عليهِمُ السلامُ. وقيل: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فِي الظَّاهِرِ، أَخْلِصُوا لِلَّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُشْرِكُونَ، وَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَالطَّاغُوتِ آمِنُوا بِاللَّهِ، أَيْ صدِّقوا باللهِ وبِكُتُبِه.

ورُويَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أنَّ عبدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ وأَسَدَ وأُسَيْدَ ابْنَيْ كَعْب وثَعْلَبَةَ بنِ قيْسٍ وابْنَ أُخْتِ عبدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ ويامينَ بْنَ يامين أَتَوا إلى رسول اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ قالوا: نؤمِنُ بِكَ وبِكتابِكَ وبِموسى وبالتَوراةِ وعُزَيْر، ونَكفُر بما سِواه مِنَ الكُتُبِ والرُسُلِ، فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ: بلْ آمِنوا باللهِ تعالى ومحمَّدٍ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ وبِكتابِه القُرآن، وبِكُلِّ كِتابٍ كان قبلَه، فقالوا: لا نَفعلُ، فَنَزَلتْ فآمَنوا كلُّهم.

وفي هذه الآية دليلٌ على وَحدَةِ الرِّسالَةِ الإلهيَّةِ إلى الخَليقة ووحدةِ النَبيِّينَ والمُرسَلين لأنَّ المُرسِلَ واحدٌ، ألا وهوَ الإلهُ الخالقُ ـ جَلَّ وعَلا، إذْ إنَّ اللُّبَّ هو الإيمانُ باللهِ ورُسُلِه وملائكتِه والكُتُبِ التي أُنْزِلَتْ على رُسُلِه، وأنَّ المُتَأَخِّرين يَجِبُ عليهم أنْ يُؤمِنوا بما جاءَ بِه السّابقون لَهم؛ لأنَّ الرِّسالةَ الإلهيَّةَ سِلْسِلَةٌ متَّصِلَةُ الحَلَقاتِ، كلُّ حَلْقَةٍ منْها تالِيَةٌ لِسابِقَتِها، وكما قال النبيُّ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ: ((إنَّ صرح النبوَّة واحد))، وفي معناه ما رواهُ البُخاري ومسلم وغيرُهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ)). فالرسالةُ المُحمديَّةُ آخرُ جُزْءٍ لِذلك الصَرْحِ الشامِخ، وبها تَمامُه وكَمالُه.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ}  قرأ نافع والكوفيون: “والكتابِ الذي نَزَّل على رسولِه والكتاب الذي أَنْزل من قبلُ” على بِناءِ الفعلين للفاعل، وهو اللهُ تعالى، والباقون على بنائهِما للمَفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ الكِتابِ.

وقولُه: {فقد ضَلَّ ضلالاً} ليس جواباً للأشياءِ الثلاثة، بل المعنى: ومَنْ يكفرْ بواحدٍ منها. والجُملةُ الشَرْطِيَّةُ تَذييلٌ للكلامِ السابقِ وتأكيدٌ له.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً.

(137)

 

قولُه تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً} المُرادُ بِه قومٌ تَكَرَّرَ منهمُ الارْتِدادُ وأَصرّوا على الكُفرِ وازْدادوا تَماديًا في الغَيِّ، وعن مُجاهد وابنِ زيدٍ أنَّهم أُناسٌ منافقون أَظهَروا الإيمانَ ثمَّ ارتدّوا ثمَّ أَظهَروا ثمَّ ارْتدّوا ثمَّ ماتوا على كفرِهم، وجعلَها ابنُ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما ـ عامَّة لكلِّ منافقٍ في عهدِه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ في البَرِّ والبحرِ، وعنِ الحَسَنِ أنَّهم طائفةٌ مِنْ أهلِ الكِتابِ أَرادوا تَشكيكَ أصحابِ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فكانوا يُظهِرون الإيمانَ بحضرتِهم، ثمَّ يَقولون قد عَرَضَتْ لنا شُبْهةٌ فيَكفُرون ثمَّ يُظهِرون ثمَّ يقولون: قد عَرَضتْ لنا شُبهةٌ أُخرى فيَكفُرون، ويَستمرّون على الكُفرِ إلى الموت، وذلك معنى قوله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذي أُنزِلَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} آل عمران: 72، والإِيمَانُ إِذْعَانٌ مُطْلَقٌ، وَعَمَلٌ مُسْتَمِرٌّ بِالحَقِّ، فَالمُتَرَدِّدُونَ المُضْطَرِبُونَ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ، لِذَلِكَ يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الإِيمَانِ، ثُمَّ عَادَ فَكَفَرَ، ثُمَّ آمَنَ، ثُمَّ عَادَ فَكَفَرَ، ثُمَّ ازْدَادَ كُفْراً، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ فَقَدَ الاسْتِعْدَادَ لِفَهْمِ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ، وَإدْرَاكِ مَزَايَاهُ وَفَضَائِلَهُ، وَمِثْلُهُ لاَ يُرْجَى لَهُ ـ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ ـ أنْ يَهْتَدِيَ إلَى الخَيْرِ، وَلاَ أنْ يَرْشُدُ إلَى مَا يَنْفَعُهُ، وَلاَ أَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ اللهِ، فَجَدِيرٌ بِهِ أَنْ يَمْنَعَ اللهُ عَنْهُ رَحْمَتِهِ وَرِضْوَانَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِحْسَانَهُ، لأنَّ رُوحَهُ تَكُونُ قَدْ تَدَنَّسَتْ، وَقَلْبَهُ قَدْ عَمِيَ، فَلاَ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ أَهْلاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَلاَ لِلْرَجَاءِ فِي ثَوَابِ اللهِ. وقِيلَ: الْمَعْنَى أنَّهم آمَنُوا بِمُوسَى وَكَفَرُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِعُزَيْرٍ ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى ثُمَّ آمَنُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ كَفَرُوا بَعْدَ عُزَيْرٍ بِالْمَسِيحِ، وَكَفَرَتِ النَّصَارَى بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَآمَنُوا بِعِيسَى، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ شَيْئًا مِنَ الْكُفْرِ فَكَيْفَ قَالَ: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ” فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا آمَنَ غُفِرَ لَهُ كُفْرُهُ، فَإِذَا رَجَعَ فَكَفَرَ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ الْكُفْرُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: ((أَمَّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ)). وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ)). الْإِسَاءَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكُفْرِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهَا هُنَا ارْتِكَابُ سَيِّئَةٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَلَّا يَهْدِمَ الْإِسْلَامُ مَا سَبَقَ قَبْلَهُ إِلَّا لِمَنْ يُعْصَمُ مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ إِلَّا حِينَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَمَعْنَى: “ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً” أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ. “لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ” يُرْشِدَهُمْ. “سَبِيلًا” طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: لَا يَخُصُّهُمْ بِالتَّوْفِيقِ كَمَا يَخُصُّ أَوْلِيَاءَهُ.

أَخرجَ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتِمٍ عن عليٍّ ـ كرَّمَ اللهُ تعالى وجهَه ـ أنَّه قالَ في المُرْتَدِّ: إنْ كنتُ لَمُسْتَتيبُه ثلاثًا، ثمَّ قَرَأَ هذه الآيةَ. وإلى رأيِ الإمامِ ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ ذهبَ بعضُ الأئمَّةِ فقال: يُقتَلُ المُرتَدُّ في الرابعةِ ولا يُستتابُ، وكأنَّه أرادَ أنَّه لا فائدَةَ في الإستتابةِ إذْ لا مَنفعةَ. وعليْه فالمُرادُ مِن قولِه ـ سبحانَه: “لمْ يَكُنْ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً” أنَّه ـ سبحانَه ـ لا يَفعلُ ذلك أصْلًا وإنْ تابوا، وعلى القولِ المَشهورِ الذي عليه الجمهورُ: المُراد مِن نفيِ المَغفِرةِ والهدايةِ نفيُ ما يَقتَضيهِما وهو الإيمانُ الخالِصُ الثابتُ، ومعنى نفيِه استبعادُ وُقوعِه فإنَّ مَنْ تَكرَّرَ منهمُ الإرْتِدادُ وازْدِيادُ الكُفْرِ والإصرارُ عليه، صاروا بحيثُ قد ضُرِبَتْ قُلوبُهم بالكُفرِ وتَمرَّنَتْ على الرِدَّةِ، وكان الإيمانُ عندَهم أهونَ شيءٍ فلا يَكادون يَقرُبون منه قيدَ شِبْرٍ لِيَتَأهَّلوا للمغفرةِ وهدايةِ سبيلِ الجَنَّة، لا أنَّهم لو أَخلَصوا الإيمانَ لَم يُقبَلْ منهم ولم يُغفَرْ لهم.

وقال آخرون: يُستَتابُ كلَّما ارْتَدَّ. قال أبو جعفر: وفي قيامِ الحُجَّةِ بأنَّ المُرتدَّ يُستَتابُ المرَّةَ الأُولى، الدليلُ الواضحُ على أنَّ حُكمَ كلِّ مَرَّةٍ ارتدَّ فيها عنِ الإسلامِ حُكمُ المَرَّةِ الأُولى، في أنَّ توبتَه مَقبولةٌ، وأنَّ إسلامَه حَقَنَ لَه دمَه. لأنَّ العِلَّةَ التي حَقَنَتْ دمَه في المرَّةِ الأُولى إسْلامُه، فغيرُ جائزٍ أنْ تُوجَدَ العِلَّةُ التي مِنْ أجلِها كان دمُه مَحْقُونًا في الحالة الأولى، ثمَّ يكون دمُه مُباحًا مَعَ وُجودِها، إلَّا أنْ يُفرّقَ بيْن حُكمِ المرَّةِ الأُولى وسائرِ المرَّاتِ غيرِها، ما يَجبُ التَسليمُ له مِنْ أصلٍ محكَمٍ، فيَخرُجُ مِنْ حُكْمِ القياسِ حينئذٍ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَهْدِي

الْكَافِرِينَ طَرِيقَ خَيْرٍ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَنَالُ الْهُدَى بِاللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْرَمُ الْهُدَى بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا. وَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَيْضًا حُكْمَ الْمُرْتَدِّينَ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِمْ فِي (الْبَقَرَةِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ}.

وقوله تعالى: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ} كقوله: {ما كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} آل عمران: 179، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه ومذاهبُ الناسِ وأنَّ لامَ الجُحودِ تفيدُ التوكيدَ، والفرق بيْن قولِك: “ما كان زيدٌ يَقوم” و”ما كانَ لِيقومَ”.

فخبرُ كان في أَمثالِ هذا المَوضِعِ محذوفٌ وبِه تتعلَّقُ اللّامُ، كما ذهبَ إليْه البَصْرِيّون، أيْ ما كانَ اللهُ تعالى مُريدًا لَهم الغُفرانَ، ونفيُ إرادةِ الفعلِ أَبلَغُ مِن نَفيِهِ. وذَهَبَ الكُوفيّون إلى أنَّ اللّامَ زائدةٌ والخبر هو الفعلُ. وضُعِّفَ بأنّ ما بعدَها قدِ انتَصَبَ فإنْ كان النصبُ باللَّامِ نفسِها فليستْ بِزائدةٍ، وإنْ كان بأنْ ففاسِدٌ لِما فيه مِنَ الإخبارِ بالمَصدرِ عن الذات. وأُجيبَ باختيارِ الشِقِّ الأوَّلِ وأَنَّه لا مانِعَ مِنَ العَمَلِ مَعَ الزِيادةِ كَما في حُروفِ الجَرِّ الزائدةِ، وباختيارِ الشِقِّ الثاني وامتناعِ الإخبارِ بالمَصدَرِ عن الذات لعدمِ كونِه دالًّا بصيغتِه على فاعلٍ وعلى زمانٍ دون زمانٍ، والفعلُ المَصدرُ بأنْ يَدُلُّ عليهما فيَجوزُ الإخبارُ بِه وإنْ لم يَجُزْ بالمصدرِ ولا يَخفى ما فيه، فإنَّ الإخبارَ على هذا بالفِعلِ لا بالمَصْدَرِ، وإنْ أُوِّلَ المَصدرُ باسْمِ الفاعلِ كان الإخبارُ باسِمِ الفاعلِ لا بِه أيضًا.

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.

(138)

قولُهُ تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} عَدَّ اللهُ تَعَالَى المُنْافِقِينَ مِنْ هَذَا الصَّنْفِ المُتَرَدِّدِ مِنَ النَّاسِ، آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، والمنافقون همُ الذين خَلَصوا للنِفاقِ، وأَصبَحَ الإيمانُ لَا مَوضِعَ له في قلوبِهم، وهُمُ المنافقون في الاعْتِقادِ بالرِسالةِ المُحمَّديَّةِ؛ وذلكَ لأنَّ النِّفاقَ قسمان: نِفاقٌ خالِصٌ، وهؤلاءِ كفّارٌ في ذاتِ الرِسالةِ المُحمَّديَّةِ، وهؤلاءِ كُفّارٌ كما قال تعالى في الآيات اللّاحِقةِ. والقسمُ الثاني نفاقٌ ليس خالصًا، وهو لَا يتصل بالعقيدةِ، بلْ يَتَّصِلُ بالأخلاقِ، وهو الذي جاء ذكرُه في الحديثِ الذي رواهُ البُخاريُّ ومسلمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ العاصِ ـ رضي الله عنهما: ((آيةُ المُنافقِ أربعٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخلَفَ، وإذا أؤتُمِنَ خانَ، وإذا خاصمَ فَجَرَ))، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة. وهذا النوعُ هو الكثيرُ الشائعُ.

والتعبير بقوله: “بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ” فيه نوعُ مجازٍ؛ لأنَّ البِشارةَ لَا تكون غالبًا إلَّا في الخبرِ السارِّ، ومعناها بَسْطُ بشرةِ الوجه، وذلك أنَّ النفسَ إذا سُرَّتْ انتشَرَ الدَمُ فيها انتشارَ الماءِ في الشَجَرِ، ويُقالُ للخبرِ السارِّ البِشارةُ والبُشْرى، قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. والبشارة المُطلَقةُ المُرسَلَةُ لا تكون إلَّا بالخيْرِ خاصَّةً، وأمَّا إذا كانتْ مُقيَّدةً مُفَسَّرَةً فإنَّها تَجوزُ في الشَرِّ؛ كقوله ـ تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ} كذا، وكذلك قوله: “فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ“، وفي القرآن ما ذكرَها في الشَرِّ إلَّا مُفَسَّرةً مُقيَّدةً. ووضَعَ “بَشِّر” مَوْضِعَ “أَنْذِرْ” تَهَكُّمًا بهم، ففي الكلامِ استعارةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ. وقيل: مَوْضِعَ “أَخْبِرْ” فهُناك مَجازٌ مُرْسَلٌ تَهَكُّمِيٌّ.

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)

قولُهُ تباركت أسماؤهم: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ بِأنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ المُعَادِينَ للإِيمَانِ وَالمُؤْمِنِينَ، أَوْليَاءَ لَهُمْ يُلْقُونَ إليهِمْ بِالمَوَدَّةِ. وَيُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ هَذا المَسْلَكَ فِي مُوَالاَةِ الكَافِرِينَ. والمرادُ بالكافرين، قيل: اليهودُ، لِما رُويَ أنَّه كان يَقولُ بعضُهم لِبعضٍ: إنَّ أمرَ محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ لا يَتِمُّ فتَوَلَّوا اليهودَ {مِن دُونِ المؤمنين} أي متجاوزين ولايةَ المؤمنين، وقيلَ: مشرِكو العربِ، وقيل: ما يَعُمُّهم والنَّصارى.

قولُهُ: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} يَسْأَلُ اللهُ مُسْتَنْكِراً: هَلْ يَبْتَغِي هَؤُلاءِ المُنَافِقُونَ العِزَّةَ وَالغَلَبَةَ وَالمَنَعَةَ عِنْدَ الكَافِرِينَ؟

قولُه: {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أيْ أنَّها مُختَصةً بِه ـ تعالى ـ يُعطيها مَنْ يَشاءُ وقد كَتَبَها ـ سبحانه ـ لأوليائه فقالَ عزَّ شأنُه: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} المنافقون: 8. تنبيهًا إلَى أنَّ العِزَّةَ كُلَّها للهِ وَحْدَهُ، وَلا شَرِيكَ لَهُ فِيها، ثُمَّ تَكُونُ العِزَّةُ لِمَنْ جَعَلَهَا اللهُ لَهُ.

ثُمَّ يَحُثُّهُمُ اللهُ عَلى الإِقْبَالِ عَلَى إِعْلاَنِ عُبُودِيَّتِهِم للهِ وَحْدَهُ، وَالانْتِظَامِ فِي جُمْلَةِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ لَهُمُ النَّصْرُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا، وَلَهُمُ الفَوْزُ بِرِضْوَانِ اللهِ وَجَنَّتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. العِزَّةَ: المَنَعَةَ وَالقُوَّةَ وَالنُّصْرَةَ.

قولُه: {أيبتغون عندهم العزة} استفهامٌ إنكاريٌّ، والجُملةُ مُعترِضَةٌ مقرِّرَةٌ لِما قبلَها، وقيل: للتَهَكُّمِ، وقيلَ: للتَعَجُّبِ.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ} الذين: يجوز فيه النصبُ والرفعُ، فالنَصبُ مِنْ وجهيْن، أحدُهُما: على أنَّه نعتٌ للمنافقين. والثاني: أنَّه نصبٌ بفعلٍ مُضمَرٍ أي: أذمُّ الذين، والرفعُ على أنّه خبرُ مبتَدَأٍ محذوفٍ، أي: هَمُ الذين.

قولُه: {مِن دُونِ المؤمنين} حال منْ فاعلِ “يَتَّخِذُونَ“.

قولُه: {فَإِنَّ العزة لله جميعًا} الفاءُ: لِما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: إن تبتغوا عزةً مِن هؤلاءِ. والجملةُ تعليلٌ لِما يُفيدُه الاسْتِفهامُ الإنكاريُّ مِن بُطلانِ رأيِهم وخيبةِ رجائهم. وقيل: بيانٌ لِوجْهِ التَهَكُّمِ أو التَعَجُّبِ، وقيل: إنِّها جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي إنْ يَبتَغوا العِزَّةَ مِن هؤلاء فإنَّ العزَّة الخ ..، وهي على هذا التقديرِ قائمةٌ مَقامَ الجَوابِ لا أنَّها الجَوابُ حقيقةً. “جميعاً” حالٌ منَ الضميرِ المُستَكِنِّ في الجارِّ المَجرورِ، في قولِه “لله” لاعتمادِه على المبتدأ ووُقوعِه خَبَرًا، وليس في الكلامِ مُضافٌ، أيْ “لأولياءِ اللهِ” كما زعَمَهُ البَعضُ.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ

بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.

(140)

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها} خطابٌ بطريق الالتفاتِ والْخِطَابُ لِجَمِيعِ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مِنْ مُحِقٍّ وَمُنَافِقٍ، لِأَنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ فَقَدْ لَزِمَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ أَوَامِرَ كِتَابِ اللَّهِ. وقيل: إنَّه خِطابٌ للمُنافقين فقط كَما يُفيدُه التَشْديدُ والتَوبيخُ، والكِتابُ هو القرآنُ، والذي أَنْزَلَه اللهُ عليهم في الكتابِ هو قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الأنعام: 68. وهذا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وكان المُنافقين يَجْلِسُونَ إِلَى أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَيَسْخَرُونَ مِنَ الْقُرْآنِ، فنُهوا عن ذلك. ثمَّ إنَّ أحبارَ اليَهودِ بالمَدينةِ كانوا يَفعلونَ مثلَ فعلِ المُشرِكين، وكان المنافقون يَجلِسون إليهم ويَخوضون معهم في الاسْتِهزاءِ بالقرآنِ فنَهى اللهُ المؤمنين عن القعود معهم بقوله: “أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها” أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاءَ بآياتِ اللهِ، فأَوْقَعَ السماعَ على الآيات، والمُرادُ سَماعُ الكُفرِ والاسْتِهزاءِ. “فلا تقعدوا معهم” ما داموا كذلك “حتّى” غايةٌ للنَهي “يخوضوا في حديث غيره” أيْ غير حديثِ الكُفْرِ والاسْتِهزاءِ.

وفي هذه الآيةِ باعتبارِ عُمومِ لفظِها الذي هو المُعتَبَرُ دون خُصوصِ

السببِ دليلٌ على اجْتِنابِ كلِّ مَوقِفٍ يَخوضُ فيه أهلُه بما يُفيدُ التَنَقُّصَ والاسْتِهزاءَ للأدِلَّةِ الشَرْعيَّةِ.

قولُهُ {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: “إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ“. فَكُلُّ مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ يَكُونُ مَعَهُمْ فِي الْوِزْرِ سَوَاءً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ إِذَا تَكَلَّمُوا بِالْمَعْصِيَةِ وَعَمِلُوا بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ أَخَذَ قَوْمًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَقِيلَ لَهُ عَنْ أَحَدِ الْحَاضِرِينَ: إِنَّهُ صَائِمٌ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ” أَيْ إِنَّ الرِّضَا بِالْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَلِهَذَا يُؤَاخَذُ الْفَاعِلُ وَالرَّاضِي بِعُقُوبَةِ الْمَعَاصِي حَتَّى يَهْلَكُوا بِأَجْمَعِهِمْ. وَهَذِهِ الْمُمَاثَلَةُ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ إِلْزَامٌ شُبِّهَ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُقَارَنَةِ، كَمَا قَالَ عديّ بنُ زيدٍ:

عَن المَرْءِ لا تَسْألْ وسَلْ عن قَرينِه ………. فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي

وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِذَا ثَبَتَ تَجَنُّبُ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي كَمَا بَيَّنَّا فَتَجَنُّبُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَوْلَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَوْلُهُ تَعَالَى “فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ” نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الأنعام: 69. وَقَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مُحْدِثٍ فِي الدِّينِ مُبْتَدِعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: “إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ” الْأَصْلُ “جَامِعٌ” بِالتَّنْوِينِ فَحُذِفَ اسْتِخْفَافًا، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى يَجْمَعُ.

قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ} قرَأَ الجَماعةُ: “نُزِّل” مَبْنِيًّا للمَفعولِ، وقَرَأَه عاصم مبنيًّا للفاعِلِ، وقرأه أبو حَيَوَةَ وحميدٌ “نَزَل” مُخفَّفًا مَبْنِيًّا للفاعِلِ، وقرأ النُخَعِيُّ “أُنْزِل” بالهمزةِ مَبْنِيًّا للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ في قراءةِ الجَماعةِ والنُخَعِيِّ هو “أَنْ” وما في حَيِّزِها، أيْ: وقد نَزَّلَ عليكمُ المَنْعَ مِنْ مُجالَسَتِهم عندَ سَماعِكم الكُفْرَ بالآياتِ والاستهزاءَ بها. وأمَّا في قراءةِ عاصم فـ “أَنْ” معَ ما بَعدَها في مَحلِّ نَصْبٍ مفعولًا بِه بـ “نَزَّلَ” والفاعلُ ضميرُ اللهِ تعالى كما تقدَّمَ. وأمَّا في قراءةِ أَبي حَيَوَةَ وحَميدٍ فمَحَلُّها رَفْعٌ بالفاعِلِيَّةِ لـ “نزل” مُخَفَّفًا، فمَحَلُّها: إمَّا نَصْبٌ على قراءةِ عاصِمٍ أو رفعٌ على قراءةِ غيرِهِ، ولكنَّ الرَّفعَ مُختلِفٌ. و”أن” هذه هي المُخَفَّفةُ مِنَ الثَقيلةِ، واسْمُها ضميرُ الأمرِ والشَأْنِ، أي: أنَّ الأمرَ والشأنَ إذا سَمِعتُمُ الكُفْرَ والاسْتِهزاءَ فلا تَقعُدوا.

قولُه: {يُكَفَرُ بِهَا} في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنَ الآياتِ، و”بها” في مَحَلِّ رَفْعٍ لِقيامِه مَقامَ الفاعلِ، وكذلك في قولِه: {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} والأصل: يَكفُرُ بها أَحَدٌ، فلمَّا حُذِفَ الفاعلُ قامَ الجارُّ والمجرورُ مقامَه، ولذلك رُوعي هذا الفاعلُ المَحذوفُ، فعاد عليه الضميرُ مِنْ قولِه: “معهم حتّى يَخوضوا” كأنَّه قيل: إذا سَمِعتم آياتِ اللهِ يَكْفُرُ بها المُشركون ويَستهزئُ بها المُنافِقون فلا تَقْعدوا معهم حتَّى يَخوضوا في حديثٍ غيرِه أي: غيرِ حديثِ الكُفرِ والاسْتِهزاءِ، فعاد الضميرُ في “غيره” على ما دَلَّ عليه المعنى. وقيل: الضميرُ في “غيرِه” يَجوزُ أَنْ يَعودَ على الكُفرِ والاسْتِهزاءِ المَفهومَيْن من قولِه: “يُكْفَرُ بها” و”يُسْتَهْزأُ بها” وإنَّما أَفْرَدَ الضميرَ، وإنْ كان المُرادُ بِه شَيئيْنِ لأَحدِ أَمريْن: إمَّا لأنَّ الكُفرَ والاستهزاءَ شيءٌ واحدٌ في المعنى، وإمَّا لإِجراءِ الضميرِ مُجْرى اسْمِ الإشارةِ، نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} البقرة: 68. وقولُ رُؤبة:

فِيها خطوطٌ من سَوادٍ وَبَلقْ …………….. كأنَّه في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ

وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. و”حتى” غايةٌ للنَهْيِ، والمعنى: أنَّه يَجوزُ مُجالَسَتَهم عندَ خَوْضِهم في غيرِ الكُفْرِ والاسْتِهْزاءِ.

وقوله: {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} إذاً: هنا مُلْغَاةٌ لِوُقوعِها بيْن مبتدأٍ وخبر. والجمهورُ على رفعِ اللّامِ في “مثلُهم” على خبرِ الابتداءِ. وقُرِئَ شاذًّا بفتحِها، وفيها تخريجان، أَحدُهما: ـ وهو قولُ البَصْريّين ـ أنَّه خبرٌ أيْضًا، وإنَّما فُتِحَ لإِضافتِه إلى غيرِ متَمَكِّنٍ وهو “ه” كقولِه تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} الذاريات: 23. بفتح اللّامِ، وقول الفرزدق:

فأَصبَحوا قد أعادَ اللهُ نعمتَهم ………. إذْ هُمْ قُرَيْشٌ وإذْ ما مثلَهُم بَشَرُ

في أحدِ الأوجه. فـ “مثلَهم” هنا مبتدأٌ و”بَشَرٌ” خَبرٌ؛ ولكنَّ “مثلَ” بُنِيَ على الفَتْحِ لإبهامِهِ معَ إضافتِه إلى الضميرِ المَبني على الضمِّ “هُ”؛ والثاني: ـ وهو قولُ الكُوفيّين ـ أن “مثلَ” يجوزُ نصبُها على المَحَلِّ أيْ الظَرْفِ، ويُجيزون: “زيدٌ مثلَك” بالنصبِ على المحلِّ، أيْ: زيدٌ في مثلِ حالِك. وأَفرَد “مثل” وإنْ أَخبَرَ بِه عن جَمعٍ ولم يُطابقْ بِه كما طابَقَ ما قبلَه في قولِه: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} محمد: 38، وقولِه: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} الواقعة: 22 ـ 23. قال أبو البقاء وغيرُه: لأنَّه قَصَدَ بِه هنا المَصدرَ فوحَّدَ كما وحَّدَ في قولَه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} المؤمنون: 47. وتحريرُ المعنى: أنَّ التقديرَ: إنْ عصيانكم مثلُ عصيانهم، إلَّا أنَّ تقديرَ المَصدريَّة في قولِه “لِبشَرٍ مثلِنا” قَلِقٌ.

Leave a comment

Follow الشاعر عبد القادر الأسود on WordPress.com